في عَصَب الأرض، سُبحةٌ من العذوبةِ والقِيَمِ السَّلسة، ونُسخاتٌ من حَظايا التُّحَف ومآثِرِ الزَّمن. وكَرمى لها، نفتِّشُ عن مَغارسِ الرِّجالِ الذين يلتقطونَ الشَّمس ليوزِّعوا سحرَها على الأَميال.
أحمد الجارالله مَفهومٌ مِحوَريّ في العمل الصّحافي عندما نصلُ الى مَلاقِطِ التألّق.
هو حُلوُ الصّداقةِ والصّدق، وعنوانُ شَبكِ الأصولِ عندما يَبحثُ النُّبلُ عن نُسختِه الأَصليّة. والوفاءُ لمهنة الإعلام، لم يكن معه يوماً إلّا مُتواصِلَ الإزدهار، فهو لاعبٌ أساسيّ في ميدانِ إمبراطوريّتِه، وليس من المُرتَزَقة.
من هنا، كانت دُنيا الإعلام، معه، مَعشوقةَ السُّكنى، جعلَ جوانبَه دائماً مُضيئة، لذلك لم يكن لَيلُه عُرياناً، ولم تكن دِيارُه مُمَزَّقة.
لم يكن أحمد الجارالله موسمياً في حُبِّه وطنه ورسالته في الإعلام، فعِزّةُ الكويت في نقاوتِها هي نَفَسُهُ، ومشروعُه النّقدي التّنويري على صفحات "السياسة"، هو ذاتُه، فهما مَدٌّ موصولٌ في حياتِه، يرفضُ أن يشعرَ إليهما بالحَنين.
هو مؤمنٌ بعظمة الكويت، رَّغم الظّروف التي فرضها بعضُهم عليه، فإذا كان للباطل جولة، فللحقّ ألفُ جولة، وهكذا، لم تكن الحقيقة، مع الجارالله، من الأساطير، وبقيت معه تبتَسِم.
لم يكن العمل في الإعلام، معه، مهنة، إنّما رسالة راقية عاشَها في مَواكبِ حياتِه، وانصرفَ إلى بابِها، واحتفلَ بها الى حَدِّ الإِمتاع.
لقد جعل اهتمامَه بقضايا الوطنِ والنّاس نشيداً مُوَقَّعاً يتلوهُ قلمُه، حتى قيلَ إنّه، في عشقِهِ التّدليلَ على الحقِّ بالنّقد الإيجابيّ، يستغرقُ في التطرّف، أو يتوغَّلُ في الأَبعَد.
أمّا هو، فقد كان ينقلُ ما انطبعَ في إحساسِه، وقناعته، لينسجَ مقالةً تمسُّ الحقيقة، وكان بذلك صائِباً. وهكذا، ففي اهتمامه بالعامّ، حقّق الجارالله مصالحةً مطلَقة بين ذاته الصّغرى وذاته الكبرى.
كان صاحبُ "السياسة"، بِوَعيِهِ الوطنيّ، مُعَلِّماً إيجابياً وليس امتِعاضِياً، وهذا تَمييزٌ له في مُقاربةِ ما رافقَ مجتمعه من ظروفٍ بعضُها لَذّاع.
كان يَعلَمُ، تماماً، أنّ انعدامَ الدّراية في الشّأن العام، يسوقُ الوطنَ الى مَقدورِ غيرِ مُستَحَب، وفي بعض الأحيان، الى مَيزانِ الظّلم، ليغدوَ المجتمعُ وقد افترشَتهُ إرادةٌ لا تمتُّ الى مصلحة الشّعب، ما يحرمُه حُلْوَ العيش، ويشلُّ مَفاصلَه، فلا تَعودُ تنفعُ معه شَفَقَةُ عَكّاز.
لكنّ الجارالله، والوطنيةُ مادتُهُ الخام، لم يُحَملِقْ في وجهٍ للوطنِ عابِساً، بل الى مقاماتٍ، وفي مقدّمها أمير البلاد، لو نُطيلُ الطَّوافَ بها، كما كان يقول، لجَلَسنا الى سُفرةِ وطنٍ لم تَحتَضِن إلّا أَطباقَ الأملِ والرّجاءِ وجُبلةِ الخَير.
أحمد الجارالله، لا يمثِّلُ صورةً للمُنتَمي الى مُعتَقَدٍ أو مَبدأ، إنّه صانِعُ صورةِ المجتمع ببساطةٍ، وبعيداً عن أيِّ تعقيدٍ دِعائيّ.
لقد انتقلَ من رَجُلٍ الى مِرآةٍ صافيةِ الصَّفحة، تُفصِحُ عن صياغةِ تجربةٍ وطنيّةٍ عميقة، تعودُ بنا الى ذلك الزّمانِ الذي بدأَ فيه النّاسُ يُعَبِّرون عن ارتباطاتِهم الجَماعيّةِ بوطنهم أرضاً سرمَدِيّة، حتى تَمَدَّدَ التِزامُهُ فوقَ جسدِ "السياسة" مدرسةً لمفهومِ الانتماءِ، وحماسةِ الولاء، وتصويب الرّماية بمنظورٍ يشعلُ جذوة الوعي.
أحمد الجارالله القارئ المسؤول، والكاتب المسؤول، لم يُحَمِّلْ ثِقلَه أَحَداً، لقد قرعَ بابَ الحياةِ وحدَه، في الشِدَّةِ رأى ما لا نراهُ بالنِّعمة، ولم يتبدَّدْ حلمُهُ الذي صَمَدَ صمودَ قلبٍ نَقِيٍّ صافحَ الفرحَ والأَملَ، فبادَلَه أصحابُهُ حُسنَ العِشرةِ، وكريمَ اللُّحمَة، ولا عَجَب، فالسّادةُ لا يَختارونَ إلّا جِوارَ السّادةِ جِواراً.
لقد التزم الجارالله بما قاله هيغل في كتابه "الجماليّة" "ليس للكلمة وجودٌ مستقلّ عن الفنّان"، لذلك، كان هو ذاتُه الفنّانَ النّاطق، والفاعلَ الذي، بفعلِه، تمكَّنَت "السياسة" من أن تصبح وجوداً محسوساً وواقعاً لافِتاً.
لم يرتدِ كلام الجارالله، مرّةً، في عباراته، أسلوبَ أن يذهبَ قارئها الى ما وراءها، ليعبرَ الى ما لا تقولُه في ظاهرها، فالرّجلُ لم يكنْ، يوماً، باطنياً، بل كان كلامُه يُطلّ، دوماً، على معنى المعنى، واضحاً، مباشراً، جريئاً، لأنّ الجارالله جعل من رسالتِه قضيّة، تكرَّر التزامُه بها، وأعطاها حقَّها بهذا الالتزام. وهكذا، رفضَ الجارالله أن ينصاعَ لمنهجِ الوقاية، وتَوَخّي الظلّ، والتملّق، كما درجَ بعضُهم، وأن يكون صدى لِما يُفرَض، لأنّه جريء، متحرِّر، صاحبُ أَنَفَة، متأثِّرٌ بمقتضيات حريّة الرّأي، ومؤمنٌ بأنّ هذا الحقَّ سينتصرُ دائماً.
لقد ورد في الفلسفة الشّرقية "أنّ الإنسان يحصدُ نتائجَ أفعاله الشخصيّة"، وينطبقُ هذا القَول، نجاحاً في مسيرة الجارالله الإعلاميّة في جريدة "السياسة"، وكلّها محطّاتٌ مشرقَة، متجرّدة، مرتبطة بمبدأ الحريّة، وممتزجة بأنفاس الكويت الطيّبة.
كاتب، استاذ جامعي لبناني