ما أطرحه في هذه المقالة لا يطعن في مراسيم، أو تشريعات محصّنة بنص الدستور، فهذه تقع خارج نطاق النقاش والمساءلة.
إنما المقصود، الموظفون الذين يملكون الصلاحية لإصدار القرارات، وتوقيع المعاملات، ثم يتجاوزون تلك الصلاحيات، استناداً إلى أوامر شفهية من أشخاص، لا يملكون الصفة القانونية، وإن امتلكوا النفوذ أو التأثير.
وبينما تسعى الدولة إلى مستقبل واعد تُجسّده "رؤية 2035"، بكل ما تحمله من تطلعات تنموية، ثمة مسار قانوني موازٍ، قد لا يغيب عن المشهد، لكنه حاضر في النصوص. وهو مسار العدالة التي لا تسقط بالتقادم وفق حكم المادة 21 مكرر من قانون حماية الأموال العامة.
تنبع هذه القاعدة من فلسفة العدالة التي تراعي أن الأموال العامة تُشبه مال اليتيم، لا يملكها فرد بعينه، ولا يوجد من له مصلحة شخصية في متابعتها، أي أن الناس العاديين لا يسعون إلى متابعة قضايا المال العام لأنها لا تمسّهم مباشرة، مما يجعل ذلك المال عرضة للإهمال، أو التجاوز، ولذلك يُبالغ المشرّع في توفير وسائل حمايتها.
الدعوة إلى مراجعة قانونية مسؤولة
ويُراد من هذا التذكير الحض على مراجعة هادئة للمسؤوليات القانونية المترتبة على أي توقيع، أو إجراء، سابق أو لاحق، ولو بدا في ظاهره بسيطاً.
فكم من توقيعٍ عابرٍ جرّ على صاحبه مساءلاتٍ، لم تخطر له على بال، لا سيما إن شابَهُ تجاوزٌ للنصوص، أو استُخدم خارج نطاق الصلاحيات، بدافع المجاملة، أو تحت ضغط، أو نتيجة جهلٍ بعواقبه.
النيّة الحسنة لا تعفي صاحبها من المسؤولية
لا يُفرّق القانون بين من تعمّد المخالفة ومن قال: "قالوا لي وقّع"، بل ينظر إلى النتيجة، والضرر.
ولأننا نطمح إلى دولة مؤسسات تحكمها الشفافية، فإننا بحاجة اليوم إلى ثقافة تقوم على التحوّط لا الاندفاع، وعلى التثبّت لا الاستعجال، وعلى تصويب الخطأ لا التمادي فيه.
قد يُحتسب للموظف، مستقبلاً، امتناعه عن إجراءٍ عُرض عليه، حين رأى أنه يتجاوز صلاحياته، أو يصطدم بنصّ قانونيّ صريح.
فالحكمةُ تكمن في استشراف ما قد يترتب على ذلك بعد سنوات، حين تُفتح الملفات، وتُراجع السجلات، ويُسأل كلٌّ عن توقيعه، لا عن نواياه.
التحوّط المبالغ فيه قد يُضرّ أيضاً
في المقابل، فإن المبالغة في التحوّط قد تُفضي إلى نتيجة لا تقلّ خطورة، وهي عزوف بعض الموظفين عن اتخاذ القرارات خشية المساءلة، حتى في الحالات التي يكون فيها القرار اجتهاداً مشروعاً.
فالاجتهاد، وإن لم يُصب دوماً، يبقى جزءاً من العمل الإداري، ما دام قد استند إلى معطيات واقعية، ودراسة مناسبة لتحقيق المصلحة العامة.
وهنا يتجلّى دور القضاء، في التمييز بين من اجتهد فأخطأ، ومن أهمل أو تجاوز عن علم. فالمساءلة يُراد بها تقويم الخلل، وهذا هو ما يجب أن يُحترم داخل مؤسسات الدولة.
المساءلة قد تبدأ بعد ترك المسؤول منصبه
فالمسؤولية الإدارية لا تنتهي بانتهاء الوظيفة؛ بل قد تبدأ حين يُعاد النظر في ما جرى توقيعه، وتُقارن الوقائع بالنصوص، وتُفكّك الذرائع التي قُدّمت، آنذاك، على أنها "إجراءات طبيعية".
في تلك اللحظة، لا تنفع المرافعات الشفهية، ولا تُقبل التبريرات الشخصية؛ فالحُكم سيكون لما هو ثابت، التوقيع، وتاريخ الإجراء، ومدى توافقه مع القانون عند صدوره.
لذا، فإن ترسيخ ثقافة التحوّط، والتثبّت، والمرجعية القانونية، لم يعد ترفاً، بل ضرورة لحماية الموظف العام، وحماية الدولة نفسها.
المخالفات الإدارية تضعف الثقة بالدولة
فتراكم المخالفات الإدارية قد يُفضي، لاحقاً، إلى موجة مطالبات قانونية تستهلك وقت الدولة، وتستنزف مواردها، وتربك إدارتها، وتُضعف ثقة الناس بمؤسساتها، وتمنح خصومها ذرائع لم تكن متاحة من قبل.
والتذكير بالمدد القانونية رسالة أن الحقوق لا تضيع، وأن العدالة ترتبط بإطار قانوني مستقر. فالزمن لا يُسقط الجريمة، ما دامت العدالة تنتظر من يوقظها.
لذا نقول، كما نرجو أن تُكلّل "رؤية 2035" بمكتسبات تنموية واقتصادية، فالعدالة التي قد تتحقق قبل انتهاء 2035، ستكون امتدادا لما نُرسّخه اليوم… من قرارات مسؤولة، ونوايا صادقة، واحترام للنصوص لا تجاوزها.
"دير بالك"… نقولها كنصيحة صادقة
ولعلّي أختم بعبارة قد تختلف تأويلاتها من شخص لآخر، وهي: "دير بالك". ففي معناها الحقيقي، هي قمة المحبة، والحرص.
لكن هناك من يُجيدون الهمس في الظلال، فيُحرّفون المعاني عمداً لتشويه قائلها، فيُصوّرون المحبة تهديدًا، والحرص تحريضاً.
ومع ذلك، تبقى الحقيقة واضحة للمنصف العاقل، الذي يُدرك الفرق بين من يُهدد بخبث في الخفاء، ومن يُحذّر بمحبة في العلن.
و"دير بالك"… أقولها لكل مسؤول، فشخطةُ قلمٍ اليوم قد تُصبح مساءلةً ثقيلة في الغد.
Abdulaziz_anjri@