في ظل التطلعات التنموية للدولة، ورؤيتها لمستقبل مزدهر ومستدام، يبرز دور مؤسسات المجتمع المدني، كركيزة أساسية وشريك، لا غنى عنه في تحقيق هذه الأهداف.
فكما نصت الخطة الإنمائية، فإن بناء "جهاز مؤسسي داعم؛ يرسخ القيم، ويحافظ على الهوية الاجتماعية، ويحقق التنمية البشرية والتنمية المتوازنة"، هو جوهر مسيرتنا التنموية، ومع دخول الخطة الإنمائية الرابعة
(2025-2030) حيز التنفيذ، يزداد زخم الحاجة إلى تفعيل هذه المؤسسات بشكل أعمق وأشمل.
إن ما نتمتع به من بيئة خصبة لنمو العمل التطوعي والمجتمعي، تغذيها تلك الروح الإنسانية المتجذرة والتعايش المجتمعي بين مختلف الأطياف، هي عوامل فاعلة في إدماج الأفراد والجمعيات في الجهود الإنمائية.
هذا التوجه يتناغم تماماً مع شعار الأمم المتحدة في خطة التنمية المستدامة 2030 "لن نترك خلف الركب أحد"، والذي يؤكد ضرورة جعل الناس أنفسهم عنصراً فاعلاً في تنفيذ الخطط، فالمجتمع المدني، بجذوره الممتدة اجتماعيا، يمكن أن يكون جسراً حقيقياً بين القطاع العام والخاص.
واقع المجتمع المدني في الكويت اليوم مبشر، فالبلاد تضم أكثر من 300 واجهة، تمثل مؤسسات مسجلة تحت مظلة وزارة الشؤون الاجتماعية، بالإضافة إلى أكثر من 700 فريق ومبادرة تطوعية مسجلة رسمياً، ولا ننسى المئات من النماذج المجتمعية "غير المهيكلة" كالصناديق العائلية، والأوقاف الذرية، هذه الأرقام تعكس حيوية هذا القطاع وإسهاماته المتعددة، والتي تتراوح تقديراتها المالية لإنفاق الجهات الخيرية سنوياً بنحو 200 مليون دينار كويتي، الأهم من ذلك، أن هذا القطاع يستحوذ على نسبة جيدة من الكوادر الوطنية، من حديثي التخرج والعاملين في القطاعين، العام والخاص، وصولاً إلى شريحة المتقاعدين الذين يجدون فيه فرصة للإنجاز والعطاء.
لقد أثبتت مؤسسات المجتمع المدني الكويتي مراراً وتكراراً قدرتها على العطاء والمساندة في أصعب الظروف، فمنذ عقود، كانت هذه المؤسسات سباقة في الاستجابة للأزمات، وليس آخيراً مساهماتها الفاعلة في مواجهة تداعيات السيول والأمطار في عام 2019، وما تلاها خلال جائحة "كورونا"، ودعمها المتواصل للدور الإنساني في أزمات المنطقة كبرى، مثل سورية، والعراق واليمن، وعلى رأس هذه الجهود في القدس وفلسطين حيث ساعدت في تأكيد ريادة الكويت، وبلوغ مكانة متميزة على الصعيد العالمي، توجت بإطلاق لقب "المركز الإنساني".
لتعزيز هذا الدور الحيوي، وضمان إسهام أكبر لمؤسسات المجتمع المدني في الخطة الإنمائية للدولة، آمل تبني عدد من النصائح التي أضعها بين يدي المعنيين:
أولها، بناء القدرات: يحتاج المجتمع المدني إلى جرعات مكثفة من الوعي التنموي بالخطة الإنمائية، ومؤشراتها، بما يضمن تناغم أدائه مع الأهداف الوطنية، إن الاستثمار في تدريب الكوادر وتطوير مهاراتهم، الإدارية والفنية، سيعود بالنفع على الجميع.
ثانيها، دعم المبادرات: إن توجيه حصة معقولة من الموارد للمجتمع المدني، وتعزيز بيئة التمكين، وتبني المبادرات النوعية التي تدعم الخطة الإنمائية، إذا ما تواكب مع معايير حوكمة رشيدة ، يمكن إسناد عدد من مشروعات الخطة الإنمائية له، من خلال تحالفات تنموية قطاعية، وتوسيع إطار الشراكة مع برامج المسؤولية المجتمعية للشركات، وحتى تخصيص حصة من عوائد الزكاة.
ثالثها، تمثيل متوازن: لا يمكن للمجتمع المدني أن يؤدي دوره كاملاً دون إشراكه في لجان التوجيه، وصناعة القرار الإنمائي، فالاستماع إلى أفكارهم وطروحاتهم الجادة سيعزز مفاهيم وآليات الحكم الرشيد.
رابعها، بيئة تشريعية وحوكمية داعمة: يتطلب الأمر إصدار قانون عصري تشاركي يتلاءم مع الدور المأمول للمجتمع المدني، كما يجب رفع نسبة مؤسساته التي تلتزم بالحوكمة، وتوفير الحوافز اللازمة، وإزالة القيود والعوائق التي تواجهها.
آخرها: إطلاق المرصد الوطني للمجتمع المدني:فهذا لا يوجد حالياً، لحصر دقيق للعاملين في المجتمع المدني، ولا مؤشرات واضحة لحجم إسهامه في الناتج المحلي لذا، فإن إطلاق مرصد وطني يتولى إصدار بيانات إحصائية، وتقارير دورية عن فاعلية هذا القطاع، سيساهم في تسليط الضوء على دوره الحيوي ويسهل عملية التخطيط والتنسيق.
إن "رؤية كويت 2035" التي تؤكد تحويل الكويت إلى مركز مالي وتجاري جاذب للاستثمار يقــوم فيــه القطــاع الخــاص بقيــادة النشــاط الاقتصــادي... وترســخ فيــه القيــم وتحافــظ على الهوية الاجتماعية، وتحقق التنمية البشرية والتنمية المتوازنة".
لا تزال خريطة طريق لمستقبلنا… ومؤسسات المجتمع المدني جزءاً لا يتجزأ من تحقيق هذه الرؤية الطموحة. فبتعزيز الشراكة الحقيقية، وتمكين هذا القطاع، نضمن أن "لن نترك خلف الركب أحد"، وأن مسيرة التنمية المستدامة في الكويت ستمضي بخطى ثابتة نحو تعميق الأثر.
خبير استدامة
[email protected]