أحمد الجارالله
أول الغيث قطر ثم ينهمر، هذا الوصف الدقيق للمستجدات الأخيرة لمجلس الوزراء، الذي يعمل على تحقيق أماني العهد، في كثير من المجالات، وأكرر أماني العهد.
صحيح أن التركة ثقيلة، فالفوضى الموروثة منذ نحو 30 عاماً وأكثر، تركت سلبيات لا يمكن تجاوزها بين ليلة وضحاها، لأن مؤسسات الدولة كانت أشبه بالمثل العربي الدارج "حارة كل مين إيده له"، أكان في تعدد الآراء، أو اغتنام الفرص عبر فساد مكشوف، وشراء الولاءات من خلال رشوة موصوفة، ليس بالضرورة أن تكون مالية، بل وظيفية، وهي أشد أنواع الفساد تخريباً.
معظم الوزارات، إلى اليوم، مليئة بموظفين عليهم الكثير من الملاحظات، لا سيما من أتوا عبر "براشوت" الخدمات النيابية، ومنهم الكثير ممن زيفوا شهاداتهم، حتى وصل الأمر إلى حملة "الدكتوراه"، وهؤلاء تقلدوا مناصب مهمة، ما أثر على رواتب الموظفين، لأن هناك نهباً لأموال الدولة عبر الشهادات المزيفة، ما جعل الكتلة الوظيفية البشرية أكبر من قدرة الدولة، فمنذ 16 عاماً، أو أكثر لم يجر تعديلها، بينما التضخم التهم كامل القدرة الشرائية للرواتب.
على هذا الأساس تخلفت الكويت، في التنمية، ومشاريع البنية التحتية والخدمات، لهذا شهدنا انقطاع التيار الكهربائي في أوج الطقس الحار، بينما قلنا مراراً إن مشاريع الطاقة بحاجة إلى نفضة، وعمل جاد، كذلك الخدمات العامة، والدورة المستندية الطويلة المزعجة.
صحيح أن هناك الكثير من المشكلات والأزمات، التي تسببت بها الفوضى الإدارية، وكذلك ترسيخ النفوذ الانتخابي وغيرهما، أثر على نواحي الحياة في البلاد.
لكن أفظع ما تركته تلك الحال غير السوية، تخلف التعليم، فهو مشكلة كبيرة ممتدة، لم تؤسس لتعليم متطور، وكذلك لم تجر دراسة منهجية للحاجات والمخرجات التي يتطلبها سوق العمل الكويتي، بل كل ما كان يجري غسل أدمغة التلاميذ والطلاب، بخزعبلات، وتربية الجهل.
في هذا الأمر ثمة الكثير من الكلام عمّا رسخته تلك المنظومة، وكيف أيقظت العصبيات الطائفية، والقبلية وحتى المناطقية، وأنتجت أجيالاً تفتقد الشعور بالانتماء الوطني، فيما لم ينظر أحد إلى المخاطر المترتبة على ذلك وتأثيرها على مستقبل الكويت.
صحيح لا نحمل المسؤولية الكاملة لمجالس الأمة، فهي مشتركة بينها وبين مجالس الوزراء، التي خضعت طويلاً للنواب، خصوصاً في ما يتعلق بالمشاريع التنموية، لأنها كانت تقاس بمبدأ فاسد، المحاصصة، فإذا كانت حصة المتنفذ أكبر مما يعتقد، أفشل عبر نوابه المشروع، وإذا لم يعجب الوزير شكل رئيس الشركة، عرقل التنفيذ، ولن ندخل في تبادل المصالح الخاصة، لأن الحديث عنها يطول.
لا شك أن هذا لا يبني دولة مؤسسات، بل يؤسس مزارع خاصة، في المقابل كنا نشاهد التقدم التقني في الدول المجاورة، ونتحسر، وكذلك معجزات حققتها دول لديها إمكانات، صحيح أنها أكبر من الكويت، لكن مقارنة بينها وبيننا يمكن القول لدينا القدرة على تنفيذ تلك المشاريع، والاستعانة بأصحاب الخبرة.
ففي الوقت الذي نستورد نحو 95 في المئة من الغذاء، فإن الصين عملت على تشجير مساحات أكبر من مساحة الكويت بعشرات المرات، وبدأت تأكل منها، وتخفض فاتورة الاستيراد، وتغير درجات الحرارة، وكان يمكن أن نستفيد من هذه الخبرات، لكن العراقيل والحجج أكبر من أي قدرة.
اليوم، يعمل مجلس الوزراء، بتوجيهات القيادة السياسية، وها هي بدأت تظهر مؤشرات جيدة، ومنها منصة التأشيرات التي أطلقها قبل أيام، وأن تكون الكويت كبقية دول الخليج التي عززت ناتجها الوطني، وأفسحت في المجال أمام الجميع كي ينفق داخلها.
لا شك أن هذه الخطوة مباركة من الجميع، فهي تشجع الحركة الاقتصادية في البلاد، وكذلك توفر الكثير من الاستقرار الأسري، وتشجع قطاعات عدة في البلاد، وهذا ما كنا نقوله منذ 30 عاما، لكن "عمك أصمخ"، أو بالأحرى لم يكن القرار بيد صاحب القرار، بل كان الأقوى هو الضليع بالابتزاز، وصوته أعلى، والتهديد بالإعدام السياسي، للوزراء.
صحيح أن الصورة تتغير نحو الأفضل، لكن المطلوب أن يستمر مجلس الوزراء على هذا النحو، ويسرع العمل كي تتجاوز الدولة التركة الثقيلة، بينما المعلوم في الإدارة أن الذي لا يعمل لا يخطئ، والمسار الصحيح يقوم على العمل حتى مع الخطأ لأن المعالجة تكون أسهل.
الكويت اليوم بدأت، بفضل توجيهات حاكمها، تسير على السكة الصح، والقطار يتوقف في بعض المحطات، لكنه لا يتراجع إلى الخلف، ولدينا في الكويت كل الإمكانات، أولا المالية، أكانت السيادية أو الصناديق أو من القطاع الخاص، كي نحقق نهضة، مع وجود طاقات بشرية كبيرة، مع الاستمرار بتعديل القوانين وتطويرها، ولذا نتمنى أن يكون ما نشاهده اليوم أول الغيث.