في خضمّ ما يُحضَّر للمنطقة من مخطّطات، ومنها ما يُعنى بإيجاد مجموعات اقتصادية، وأسواق مشتركة، تفرضُ التّعاون والتّبادل بديلاً عن التّنافر والصّراعات، ومنها ما يسعى إلى تفكيك بعض الشّرق، لتحقيق صفقة الشّرق الأوسط الجديد، يغيبُ لبنان عن السّاحة، بفِعل أزماته التي أكثرُها مُفتَعل، ومُفتعلُها معروف، يستغلّ ضعف الدولة ليستبيح قرارها، ويمنعها عن ترَصُّد الحلول التي تنتظرها المنطقة، ليكون لبنان واحداً من بُنودها.
إنّ النّاس، في لبنان، أمام حائط مسدود، والسبب يعود الى إحجام الدولة عن المبادرة لاتّخاذ قرار بسحب السّلاح من "حزب الله" والفصائل الفلسطينية، ما يعطّل الفرصة السّانحة الوحيدة التي قدّمها المجتمع الدّولي، بدعم من البلدان العربية الشّقيقة، وفي طليعتها دُول الخليج، لحلّ أزمة الوطن التي دامت عُقوداً، وخلّفت، فيه، دماراً وضحايا، وهجرة وتراجعاً اقتصاديّا حتى الإفلاس.
كان لبنان، على مَرّ التاريخ، رائع الحُسن، حبّةُ القمحِ الدّفينة في أرضه تُطلِع ربيعاً، الى أن انقضَّ عليه الغريب، وعاونَه بعض البلديّين الفاسدين، حُبّاً بالسيطرة والثّروة، فقُضِي على خصوصيّاته، وفرادتِه، أي الهويّة التعدّدية، ويُسر الحضارات التي أفاد منها، والصّيغة المُثلى التي تقوم على التَفاعل الإيجابي بين الانتماء السياسي الى الوطن، والانتماء الرّوحي الى الدّيانات والمَذاهب.
فبدلا من أن يستمرّ لبنان ملجأً للمُضطَهَدين، وممراً للثقافات، ونموذجاً للحريّة والانفتاح، أصبح مُرهَقاً بالنّزاعات، والحروب، والمطامع، حتى إنّ المتطرِّفين في السوداوية اعتبروا أنّ لبنان حضارة في طريق الزّوال.
اليوم، لا تزال صورة لبنان عاجزةً عن خَلع واقعها الفَجّ، ولسنا ننكر أنّ هناك قضايا، ومسائل كثيرة تشكّل الأزمة الوطنيّة، لكنّ المشكلة الأساسيّة التي بدونِها يُتاح للبلاد استرجاع عافيتها، تكمن في السّلاح غير الشّرعي، والذي لم يزل في حوزة "حزب الله"، والفصائل الفلسطينيّة، وقد عبّر المسؤولون في الحزب، لمرّات متتالية، عن عدم موافقتهم على تسليم السّلاح للقوى الشرعية، وهو سلاحٌ جعل البلد سريع العَطَب، ممزَّقا.
إنّ هذا الأمر، على خطورته، يجعل لبنان في مهبِّ ريحٍ لا تُحمَدُ عقباها، فالدولة، بأركانها المسؤولين، لم تبادر، بعد، الى طرح القضية بجديّة، واتّخاذ قرار رسميّ يفرض على "حزب الله" تسليم سلاحه، وقد قال أحدُ الأركان إنّ فرض هذا الأمر قد يؤدّي الى حربٍ أهليّة، الوطنُ بغِنًى عنها.
من الطبيعي أن يرفض الشّعب اللبنانيّ الحرب الداخلية، لأنّه لمّا يزل يعاني نتائجها الكارثيّة، لكن، هل يستطيع الشّعبُ نفسه القبول باستمرار وجود السّلاح الذي أدّى الى تسلّط حامليه، واستباحتهم مؤسّسات الدولة، ومقدّراتها، وقرارها، واستبدادهم، وترهيبهم، وخطّتهم جعل لبنان ورقة تفاوض بيد إيران، لا علاقة للبنان بها، بالإضافة الى أنّ اللبنانيّين ليسوا مسلَّحين ليواجهوا "حزب الله"، وهم ليسوا، أساساً، في هذا الوارد.
وقد ادّعى مسؤولو "حزب الله"، وفي كلّ مناسبة وطلَّة، أنّ سلاحهم هو ضمانة الدفاع عن لبنان، وردّ العدوان الإسرائيلي عنه. وفي هذا الصّدد، نسأل هؤلاء المستَقوين، هل استطاع سلاحهم الدفاع عنهم، بالذات، قياديّين من الصفّ الأول، والثاني، والثالث، وعن أفرادهم الذين قَضَوا ضحايا بلا ثمن، وهل استطاع هذا السّلاح حماية المناطق اللبنانية المدمّرة، في الجنوب والبقاع والضاحية، والتي يستوجب إعادة إعمارها أكثر من عشرة مليارات دولار؟
أمام هذا الخطر المُحدِق بالوطن، في تضييع فرصة التّعافي، لن يقبل الشّعب اللبناني، بغالبيّته المطلقة، أن تتمَّ مصادرة قرار الوطن من جانب "حزب الله"، وتحت أيّ شكل، ليعود الحزب إلى ممارساته التي لا تنتسب الى مصلحة الوطن، إطباقاً على البلاد، وإخضاعاً للدولة بسياقٍ سلطانيّ يقضي على الحريّة، وعلى سيادة الكيان.
إنّ الشّعب برمّته، يريد السّلام، والأمان، والطمأنينة، والأمل بالمستقبل، وقيام الدولة القادرة، وتطبيق الدّستور والقوانين النّافذة، بمعنى استعادة البلاد من مُختطِفيها، وإعادة لبنان الى حضن الحقّ.
لقد آن الأوان، وسنحت الفرصة، لتضميد جراح الوطن، ووَقف الوجع والنّزيف، ولمّا كان الجميع ينادي بعودة الدولة التي، وحدها، تؤمّن هذا التّضميد، والعدالة، والاستقرار، والعيش الكريم، أصبح من الواجب، إذاً، الإصغاء لنصيحة الدّول، ولا سيّما الأشقّاء في الخليج العربي، لعودة "حزب الله" إلى لبنان، بقناعة أنّ سلاحه هو عامِلُ تفرقة، وخطر، واندلاع فِتَنٍ وحروب، واستقواء مرفوض، وأنّ تسليمه الى الشرعيّة اللبنانيّة هو الحلّ الأَمثل لعودة أمن الوطن من المنفى، وانتهاء مواسم الألغام القاتلة، واستعادة جواز المرور الى الكرامة والسيادة، حتى لا يطمرَ لبنان وَحلُ الأرض.
كاتب - استاذ جامعي لبناني