صرّح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن باريس تعتزم الاعتراف بالدولة الفلسطينية كدولة مستقلة ذات سيادة. يُعدّ هذا التوجّه خطوة إيجابية في إطار تعزيز الشرعية الدولية، وصَوْن النظام الدولي وقواعد القانون.
لكن في المقابل، يثير هذا الاعتراف أسئلة جوهرية: ما أهميته في تكريس وجود الدولة الفلسطينية، وهل من الممكن أن يخدم هذا الاعتراف القضية الفلسطينية؟ وإن كان الجواب نعم، فكيف ذلك؟ والأهم من ذلك، ما الدور الذي قد يؤديه في مواجهة العدوان الهمجي على المدنيين في قطاع غزة؟
في القانون الدولي، لا يُعدّ الاعتراف شرطاً قانونيا لإنشاء الدولة. فقد حدّدت اتفاقية مونتيفيديو لعام 1933 أربعة عناصر لقيام الدولة: وجود إقليم محدّد، وسكان دائمين، وسلطة فعّالة، وقدرة على الدخول في علاقات مع الدول الأخرى. وبناءً عليه، متى ما توافرت هذه الشروط، قامت الدولة قانوناً حتى دون اعتراف خارجي.
مع ذلك، فإن الاعتراف يظل ضرورة عملية، فالدولة التي لا يعترف بها أحد، أو التي لا تحظى باعتراف كافٍ، لن تستطيع الانخراط في المجتمع الدولي بالكامل، سواء عبر إبرام الاتفاقيات، أو الانضمام إلى المنظمات، أو إرسال واستقبال السفراء.
من هنا تبرز أهمية الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطين فالدولة الفلسطينية – رغم إعلان قيامها منذ عام 1988 – لم تكن قادرة على إقامة علاقات ثنائية رسمية مع فرنسا، نظراً لغياب الاعتراف. أما الآن، فإن هذا الاعتراف يفتح الباب لتعاون ثنائي في المجالات السياسية، والاقتصادية والديبلوماسية.
أهمية هذه الخطوة لا تكمن فقط في كونها تعبيراً عن موقف سياسي، بل في هوية الجهة المعترفة، ففرنسا ليست دولة عادية فهي عضو دائم في مجلس الأمن، ومن القوى الغربية الكبرى المؤثرة في القرار الدولي.
ومن ثم، فإن اعترافها بدولة فلسطين يمنح شرعية رمزية وسياسية كبيرة للكيان الفلسطيني، وقد يشجّع دولاً أوروبية وغربية أخرى على اتخاذ خطوة مماثلة.
نحن أمام لحظة دولية حسّاسة. فمع تصاعد الغضب العالمي من الانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين في غزة، باتت بعض الدول الأوروبية – مثل إرلندا وإسبانيا والنرويج – تُعيد النظر في مواقفها التقليدية تجاه القضية الفلسطينية، وتبدي استعداداً للاعتراف.
التحرّك الفرنسي قد يُشكل حافزاً إضافياً لتوسيع دائرة الاعترافات، ما يُضفي زخماً جديداً على مساعي الفلسطينيين للحصول على حقوقهم السيادية، ويصعّب على إسرائيل إنكار وجود دولة فلسطينية قانونية قائمة ومعترف بها من عدد متزايد من دول المجتمع الدولي. واكبر دليل على ذلك هو مطالبة 220 نائباً في البرلمان البريطاني يمثلون تسعة أحزاب سياسية، رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بالاعتراف بفلسطين كدولة مستقلة ذات سيادة.
هذه المطالبات من أعضاء البرلمان البريطاني تمت بعد اقل من 24 ساعة من تصريح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن نية باريس بالاعتراف بفلسطين.
رغم ما يحمله هذا الاعتراف من رمزية وقوة سياسية، من المهم أن نكون واقعيين بشأن قدرته على وقف المجازر، والانتهاكات الحاصلة في قطاع غزة. الاعتراف وحده لن يوقف إطلاق النار، ولن يفتح المعابر، ولن يُنهي الحصار فمثل هذه التطورات تحتاج إلى أدوات ضغط ملموسة، مثل العقوبات، أو حظر تصدير السلاح، أو التهديد بإجراءات ديبلوماسية أكثر حزماً.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الاعتراف يغيّر المزاج الدولي، فهو يبعث رسالة واضحة مفادها أن العالم لم يعد يتسامح مع استمرار الاحتلال، وأن الحقوق الفلسطينية لم تعد قابلة للتأجيل أو التهميش. وقد يكون الاعتراف مقدمة لتحوّل أوسع في السياسات الأوروبية تجاه الصراع، وربما بداية لتحريك مسار سياسي أكثر عدالة وإنصافاً.
الاعتراف الفرنسي، وغيره من الاعترافات الدولية، يُعزز من المكانة القانونية والسياسية لدولة فلسطين، فكلما ازداد عدد الدول المعترفة، ازداد ثقل فلسطين كطرف دولي، وازدادت فرصها في التمثيل، والمشاركة، والتفاوض على أساس الندّية، كذلك، يُمكن لفلسطين توسيع عضويتها في الهيئات الدولية، والانخراط في اتفاقيات متعددة الأطراف، مما يمنحها أدوات قانونية جديدة لمساءلة الاحتلال ومواجهة الانتهاكات.
كما أن الاعتراف من قوى دولية كبرى يرفع من سقف التوقعات والضغوط على إسرائيل، ويحرج الدول التي لا تزال ترفض الاعتراف بدولة فلسطين، ويُقلّص من المجال المتاح للادّعاء بأن الفلسطينيين لا يشكّلون كياناً قانونياً متكاملاً.
ختاماً، ورغم أن الاعتراف الفرنسي لا يكفي وحده لتغيير المعادلة القاسية على الأرض، إلا أنه يُعد خطوة في الاتجاه الصحيح. هو دعم سياسي ومعنوي وقانوني لشعبٍ يُقاتل من أجل حريته وكرامته منذ عقود. نأمل أن لا يكون هذا الاعتراف مجرّد موقف رمزي عابر، بل بداية لمرحلة جديدة تُفضي إلى إنهاء الاحتلال، ورفع الحصار، وعودة الحق إلى أهله.
ونسأل الله أن يعجّل برفع الظلم عن أهلنا في غزة، وأن يُحيي فينا ضمائرنا لنناصر الحق والعدالة في كل زمان ومكان.
أستاذ القانون الدولي
- كلية الحقوق- جامعة الكويت