صراحة قلم
تواصل معي من خلال منصة "X" مواطن عراقي من قبيلة عربية عريقة، لها امتداد في الجزيرة العربية، وطلب مني نشر رسالته، دون أن أذكر اسمه أو أشير إليه، كونه سنياً عاصر حكم صدام حسين، واحتلاله للكويت، وما ترتب عليه من أحداث عصفت بالعراق، حتى سقوط حكمه وإعدامه عام 2006، وكانت رسالته بعنوان "لماذا لا أمجد صدام حسين"؟ ورد فيها:
"لقد عشتُ الحقبة التي لا تزال بعض الأصوات تمجّدها إلى اليوم، وأنا أكتب هذه الشهادة، لا حقداً ولا تصفية حساب، بل أداءً للأمانة، ووفاءً لآلاف الأرواح البريئة التي دفعت ثمن الغطرسة والاستبداد.
في 2 آب (اغسطس) 1990، ارتكب صدام حسين أكبر خطأ ستراتيجي في تاريخ العراق الحديث، حين غزا الكويت.
لم يكن الغزو سوى مغامرة رعناء، بلا شرعية، ولا حكمة، فتسبّب بعزل العراق دولياً، وجرّ عليه قرارات أممية قاسية، أولها الحصار الاقتصادي، ثم الحشد العسكري العالمي، وصولاً إلى كارثة حرب الخليج الثانية.
ورغم كل التحذيرات الدولية، والمبادرات العربية والديبلوماسية، والإنذار النهائي الصادر عن مجلس الأمن والكونغرس الأميركي الذي حدد موعداً أقصاه 15 كانون الثاني 1991 للانسحاب الكامل من الكويت، رفض صدام الانسحاب.
كان يشاهد مئات الآلاف من الجنود الأميركيين والدوليين يحتشدون في السعودية، لكنه أصر على موقفه، ظناً أن أميركا لن تجرؤ على الحرب. كانت غطرسة قاتلة دفع ثمنها الشعب العراقي كله، بينما نجا هو بنفسه، واحتفل بـ"أم المعارك" التي دمرت الجيش والدولة.
ثم جاء الحصار الاقتصادي، وكان ظالماً بحق الناس، لكنه لم يكن مُطلقاً كما صوّره الإعلام الرسمي. فحتى القرار الأول 661، وما تلاه، كانت تتضمن استثناءات إنسانية تسمح ببيع جزء من نفط العراق لشراء الغذاء والدواء. لكن من الذي رفض هذا الاستثناء في البداية؟
إنه صدام نفسه، رفض البرنامج، واعتبره إهانة للسيادة، بينما كان شعبه يموت في المستشفيات بلا دواء، وتتفشى المجاعة في القرى والمدن.
بقي يرفض البرنامج حتى عام 1996، حين وافق أخيراً بعد سنوات من المعاناة، ضمن إطار "النفط مقابل الغذاء".
لقد رأيت ذلك بعيني. رأيت الأطفال يُدفنون بسبب نقص الحليب والمضادات الحيوية. رأيت طلاب الجامعات يبيعون كتبهم، والموظفين يتسولون، بينما كانت الدولة تواصل بناء القصور الرئاسية، وتحتفل بعيد ميلاد "القائد" باحتفالات باذخة.
ومع هذا، يؤلمني أن أرى اليوم عدداً من العراقيين، وبخاصة من أبناء طائفتي، يمجّدون صدام ويترحمون على "أيامه"، لا لأنهم يجهلون كل شيء، بل لأنهم يقارنون بين عهد القمع، وما حصل بعد 2003 من فوضى وفساد وطائفية. لكني أقول لهم: "الظلم لا يُعالج بالحنين إلى الظالم"، ما فعله صدام لم يكن بطولة، ولا حزماً، بل استبداداً وخراباً.
من أوصل العراق إلى الاحتلال والانهيار هو صدام نفسه، لا غير.
نعم، ما بعد صدام كان مؤلماً، لكنه لم يُبرر قط تمجيده، بل كان يجب أن يكون درساً وعبرة، لا ذريعة للعودة إلى الوراء.
وأختم بما أراه أمانةً للتاريخ: "أنا عشت تلك المرحلة، وشهدت مرارتها. لم تكن بطولة، ولم تكن عزاً. كانت قهراً وظلماً وغروراً سلطوياً دمّر العراق، وقتل أبناءه، وجوّع شعبه، ثم رحل وترك الخراب وراءه. وإن أي تمجيد لهذا الإرث هو خيانة للحق، وازدراء لدموع الأمهات). (انتهت رسالته).
هذه شهادة من شخص عاقل يخاف الله، ويخاف على بلده الذي عانا لسنوات بسبب حاكم ديكتاتوري، وبعدها جاءت حكومة طائفية مخترقة من إيران الفارسية.
al_sahafi1@