الاثنين 18 أغسطس 2025
41°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
العراق.. دولة الآلهة: عندما تتحول الزعامات إلى أوثان سياسية
play icon
كل الآراء

العراق.. دولة الآلهة: عندما تتحول الزعامات إلى أوثان سياسية

Time
الأحد 10 أغسطس 2025
د.عائد الهلالي

في العراق، لم يعد الصراع حول السياسات أو البرامج سائدا، كما هي الحال في التجارب الديمقراطية العالمية، بل بات يتمحور حول الرموز والزعامات، التي خرجت من عباءة العمل السياسي والديني، وتحولت "آلهة أرضية" لا يُسأل عمّا تفعل، ولا يُنتقد ما تقول. إنه عراق ما بعد الدولة، حيث اختُزلت المؤسسات، وتآكل القانون، وحلت مكانهما سلطة الزعيم، شيخاً كان أو مرجعاً، أو قائد ميليشيا أو رئيس حزب.

هذه الزعامات، المتكاثرة منذ سقوط النظام السابق عام 2003، لم تأتِ من فراغ، بل وُلدت من رحم الاحتلال، والطائفية، والانهيار المؤسساتي، لكنها سرعان ما استقوت، وتضخمت، وأقامت لها "قدسية مصطنعة" تجعل من أي نقد لها خطيئة، ومن أي محاولة للمساءلة جريمة تُعاقب خارج القانون.

ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن الدين علاقة روحية شخصية، أصبح في العراق سلطة سياسية مطلقة. المرجعيات الدينية، التي يُفترض أن تلتزم الحياد في الشأن التنفيذي، أصبحت توجّه الناخبين، وتُسقط حكومات، وتمنح الشرعية لمن تشاء، وتسحبها عمّن تشاء.

أما الميليشيات، فقد صارت دولة داخل الدولة، لها سلاحها، ومحاكمها، واقتصادها، وإعلامها، وولاؤها أحياناً لا يتبع العراق بل الخارج.

الزعيم السياسي كذلك لم يعد مجرد ممثل لتيار أو حزب، بل بات صنماً معصوماً، يتحدث أتباعه عنه كما لو أنه "ظلّ الله في الأرض"، لا يُخطئ ولا يُرد.

أنظر كيف تتعامل القواعد الحزبية مع قياداتها؛ لا نقد، لا تصحيح مسار، لا انتخابات داخلية حقيقية، فقط طاعة وانقياد، حتى لو تحولت تلك الأحزاب عبئا على الدولة والمجتمع.

النتيجة أننا اليوم لا نعيش في دولة مؤسسات، بل في دولة زعامات، كلٌ منها يحكم مساحة نفوذه، جغرافياً أو ديمغرافياً، وأي محاولة لكسر هذا النمط، تُواجه إما بالتخوين، أو بالتهديد، أو بالاستبعاد.

حتى البرلمان، من المفترض أن يكون ممثلاً للشعب، أصبح خاضعاً لمعادلة الزعيم. النائب لا يصوّت وفق ضميره أو مصالح ناخبيه، بل وفق ما يمليه عليه "إلهه السياسي"، وحين يختلف الزعماء، تتعطل القوانين، وتتأخر الموازنات، وتُشلّ الدولة بأكملها.

الأخطر من ذلك أن ثقافة التقديس تسربت إلى الوعي الشعبي، حتى أصبح كثير من العراقيين يفضلون الطاعة على المساءلة، والاستسلام على المقاومة، والولاء للرمز على الولاء للوطن.

لقد أصبح العراق مختنقاً بآلهته: آلهة الدين، وآلهة الطائفة، وآلهة السلاح، وآلهة السياسة. بينما يضيع الشعب بين أوامر السماء وأهواء الأرض.

فهل هناك مخرج؟

نعم، لكنه لن يكون عبر الانقلابات أو الحروب، بل عبر ثورة وعي شاملة، تبدأ من كسر صنمية الرموز، ورفض القداسة الزائفة، وإعادة الاعتبار للمواطنة، وللدستور، وللقانون.

الدولة لا تُبنى بالأناشيد والخُطب، بل بالمؤسسات التي تحاسب، والشعوب التي تنتخب بحرية، والنخب التي ترفض عبادة الأفراد.

إلى أن يحدث ذلك، سيظل العراق دولة الآلهة... لا دولة المواطنين.

كاتب عراقي

آخر الأخبار