لم نعد نعيش فقط لننجز، بل لنُشاهَد ونحن ننجز.
تحوّلت اللّحظة من جهد داخلي صامت إلى لقطة محسوبة الزّاوية.
غابت السّاعات الطّويلة من التّعب، وظهر بدلاً منها وجهٌ مبتسم يحمل شهادة، أو كأساً، أو حتّى كوب قهوة فوق مكتب مُرتّب بعناية. نجاحٌ مُعلّب، يُقدَّم للناس كما يُقدَّم الطّعام في إعلان تلفزيوني: ألوان مغرية تفتح الشّهيّة، ولكنّها لا تؤكل.
أذكر جيّداً حين كان والدي يعود من عمله كلّ مساء، مُتعباً بصمت، لا يحمل هاتفاً ذكيّاً، ولا يوثّق يومه في حكاية رقميّة عابرة، كان يحمل في عينيه حكاية مكتملة، وإنجازاً لا يبحث عن شهرة.
لا أحد كان يعلم كم الجهد الذي بذل، ولا كم مرّة تراجع عن راحته لأجل غيره، ومع ذلك، كان ينام قرير العين، مطمئناً أنّ ما فعله يكفي، حتّى لو لم يصفّق له أحد.
اليوم، بات الإنجاز معرّضاً للتّشكيك ما لم يكن موثّقاً. الطّفل لا يُعتبر موهوباً إن لم تظهر صورته على خشبة مسرح، والعاملة لا تُقدَّر إن لم تتلقّ تكريماً علنيّاً، والكاتب لا يُقرأ إن لم يصبح "صرعة" رائجة في مواقع التّواصل الاجتماعي.
أصبحنا نخاف من الصمت، نخاف أن نمضي دون أن يرانا أحد، كأنّ القيمة لا تكتمل إلا بعيون الآخرين.
تربكنا المقارنات. نرى من حولنا من يُعلن عن مشروع جديد كلّ شهر، عن شراكة، عن نجاح، عن سفر، عن "لا وقت للراحة"، فنُصاب بالذّعر.
هل نحن متأخّرون، هل ما نملكه لا يكفي، فنبدأ بالاستعراض نحن أيضاً، ليس لأنّنا نحبّ الكذب، بل لأنّنا نخشى أن نظلّ صادقين وحدنا في عالمٍ بات يصفّق للواجهات؟
لكنّ الحقيقة أنّ الإنجازات العظيمة لا تُصدر صوتاً. تلك الّتي تحصل بعيداً عن الأضواء، بين شخص وضميره، بين الفكرة وتنفيذها، بين السّقوط والنّهوض. هي تلك السيّدة التي تُعيل أطفالها دون أن تكتب منشوراً عن "قوّتها"، وذلك الشّابّ الّذي يدرس ويعمل، ويخسر وينهض دون أن يوثّق كلّ لحظة، او يشعر بالحاجة إلى تبرير صمته، أو إعلان نضاله.
ولا اكون منصفة عليَّ أن أعترف أنّ الاستعراض أحياناً ليس إلا صرخة خفيّة تقول: "انظروا إليّ، لا أريد أن أُنسى".
لست أدري من قال إنّ الإنجاز يجب أن يُشاهَد ليُحتَرم،
ومن قال إنّنا في سباق؟
بل متى تحوّلنا من بشرٍ ينجزون بصمت، إلى شاشاتٍ لا تهدأ من البثّ؟
ربّما المشكلة ليست في الجيل الجديد، بل في الضّوضاء،
في ذلك الضّجيج المتواصل الّذي يجعل كلّ من يصمت يبدو غريباً، وكلّ من لا يملك شيئاً ليُريه يُحسب عليه أنّه بلا إنجاز.
لكنّ اطمئنّوا، فالبعض يصنع الفارق، حتّى لو لم يملك وقتاً لالتقاط صورة.
دعونا نتنفّس قليلاً. نُنجز لأنفسنا، لا من أجل "الظّهور".
دعونا نُعيد للنّجاح طعمه القديم، طعم الصّمت المُشبَع بالرّضا.
فليس كلّ من يظهر ناجحاً، وليس كلّ من يصمت فاشلاً.
كاتبة سورية
[email protected]