الأحد 05 أكتوبر 2025
34°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
بين أنين الألم ورفيف الحياة
play icon
كل الآراء

بين أنين الألم ورفيف الحياة

Time
الأحد 17 أغسطس 2025
د.سامي العدواني

منذ أسابيع وأنا أعيش في مدار مختلف، حيث تتحول أروقة المستشفى إلى مسرح يومي لصراع صامت بين الجسد الذي يئن، والروح التي تأبى أن تُهزم.

والدي، ذاك الرجل العصِيّ على الألم، يواجه تراجع صحته برباطة جأش، وكأنه يفاوض القدر على هدنة تحفظ له كرامة الصمود، لم أسمعه يوماً يفيض بالشكوى، رغم أنين الوجع الذي يتسرب من عينيه أكثر مما ينساب من لسانه.

ربما كانت جذور هذه الصلابة نشأته العسكرية، التي صقلت عوده، وأعدته لمواجهة أقسى الظروف، وربما هي مناعته النفسية التي تكونت من معايشة الحروب، وملامسته رحى التحرير في سيناء الإباء، حين كان ضمن صفوف لواء اليرموك، وشاهد بنفسه استشهاد عدد من رفاقه من ذلك اللواء، وربما أودعت الحياة في صدره هذا الجَلَد منذ صباه، حين رحلت والدته باكراً، فاضطر أن يسدّ بعضاً من فراغها ، أو حين داهم المرض والده فحمله عبء المسؤولية، وهو في ريعان العمر، كل ذلك شكّل منه رجلاً يعرف أن الألم جزء من الرحلة لا نهايته!

جلوسي إلى جواره، أنا وإخوتي، في تلك الغرفة، يضعني وجهاً لوجه أمام أسئلة كبرى عن معنى الصحة والمرض، والحياة والموت، والوقت والنضج، أكتشف أن المرض على قسوته يملك قدرة على إعادة ترتيب سلّم أولوياتنا، فهو يعرّينا من زوائد الانشغال، ويختزلنا إلى حقيقتنا الأولى في كوننا بشر ضعفاء، نبحث عن يد دافئة أو كلمة صادقة، وسط ضجيج الأجهزة الطبية.

أرى في والدي صورة الحياة حين تتشبث بآخر خيوطها، لا بضعف المستسلم، بل بصلابة من يعرف أن لكل نفسٍ كتاباً مؤجلاً، وأن الفجر لا يطل إلا على من انتظر الليل بوعي وطمأنينة.

أرى فيه دروساً لا تُلقَى من على منابر، بل تُستشف من نظرة عين تتأمل سقف الغرفة وكأنها تحاور الغيب.

في هذه الأيام، يزداد يقيني أن الصحة ليست مجرد غياب المرض، بل حضور العافية في الروح قبل الجسد، وأن الوقت لا يُقاس بالساعات، بل باللحظات التي نكون فيها حاضرين حقاً مع من نحب... أتعلم أن النضج ليس كِبر السن، بل ان تنظر إلى الحياة بعين الرضا، حتى في أقسى امتحاناتها.

لقد منحني هذا الاحتكاك الحميمي بضعف والدي، وهو القوي طوال حياته، فرصة نادرة لأفهم المعنى الحقيقي للبقاء، ليس البقاء مجرد استمرار في التنفس، إنما أن يترك الإنسان فينا أثراً من عزيمته في ذاكرة من بعده، وأن يورثنا شجاعة مواجهة الأيام بأقل قدر من الخوف.

وأنا أخرج من المستشفى كل يوم، أشعر أن العالم في الخارج يمضي بسرعة متهورة، بينما الزمن هنا بطيء، لكنه كثيف المعنى. أدرك أن الموت ليس عدواً للحياة بقدر ما هو جزء أصيل من تعريفها، وأن المرض، مهما أرهق الجسد، قد يفتح في أرواحنا نوافذ على المعاني التي ما كنا لنبلغها ونحن بكامل قوتنا. والدي، وهو يخوض هذا النزال الهادئ، يعلمني أن الحياة لا تُقاس بما أخذته منا، بل بما تركته فينا من وعي، وأن أجمل ما يمكن أن نصطحبه في رحلتنا ليس المال ولا الجاه، بل حصيلة القلب حين يتطهر من الخوف، ويكتسي برداء الصبر. إنه درس العمر، يُكتَب هذه المرة لا بالحبر على الورق، إنما بدمع صامت في ممرات المستشفى، وبأيادي متشابكة تعاهدت أن تمضي معاً حتى آخر المدى.

خبير استدامة

[email protected]

آخر الأخبار