يركّز كثيرون عند الحديث عن التجربة السعودية الحديثة إمّا على النجاحات في خطط التنمية لإبراز الوجه المشرق، وإما على التعثرات والتحديات لتكبير مساحة النقد، وهناك من يجعل من هيئة الترفيه وأنشطتها محوراً وحيداً لكل حديث عن التحولات الجارية.
والحقيقة أن أي مشروع تنموي بطبيعته لا يخلو من قصور أو تأخير، ولا توجد رؤية كبرى لا تخضع للتعديل والمراجعة، فهذا أمر اعتيادي في مسارات التطوير.
لكنني هنا لا أتناول هذه الجوانب، فمجالي في هذه المقالة هو تسليط الضوء على إنجاز آخر أراه من أعظم النجاحات على المستوى البشري والثقافي في السنوات الأخيرة، وهو التحول النوعي الذي شهده الإعلام السعودي عبر البرامج، الحوارية والفكرية، التي يقودها شباب سعوديون استطاعوا أن يجذبوا النخب المثقفة العربية لمتابعتهم، بالإضافة إلى رجل الشارع العادي الذي يجد نفسه أحياناً مشدوداً إلى بعض الموضوعات الموسمية.
لقد أصبحنا نشاهد اليوم أسماء سعودية بارزة في الحقل الإعلامي تحولت علامات فارقة في المشهد الخليجي، "بودكاست فنجان" الذي تنتجه مؤسسة "ثمانية" يقدم نموذجاً واضحاً على هذا التحول؛ إذ تُطرح فيه قضايا فكرية وتاريخية، وسياسية بعمق، ومن أبرز حلقاته تلك التي استضافت الإعلامي مالك الروقي، أحد أعمدة الإعلام السعودي الشاب، الذي أثبت حضوره الميداني والتحليلي عبر برامجه المتميزة. وقد قدّم في هذه الحلقة قراءة دقيقة للتاريخ السوري ربط فيها الماضي بالحاضر، فجاء الطصصرح على قدر عالٍ من الجدية، جذب الأكاديمي والمتابع العادي معاً.
إلى جانب ذلك، يبرز برنامج "مخيال" الذي يقدمه عبد الله البندر على قناة "السعودية"، وهو برنامج يستضيف شخصيات متنوعة من علماء ومفكرين وأدباء، وإداريين كبار، فيصوغ معهم حوارات تكشف مسارات وتجارب ثرية.
من خلال هذه الحلقات، يتعرّف المشاهد على أبعاد مختلفة من الفكر والتجربة الإنسانية، بعيداً عن اللغة الخشبية أو التناول السطحي.
هذه النوعية من البرامج لم تكن مألوفة قبل سنوات قليلة، لكنها اليوم باتت جزءاً من الذائقة العامة للمشاهد السعودي والخليجي.
ولا يمكن إغفال الأثر الذي تركه إعلاميون سعوديون آخرون، مثل مساعد الثبيتي الذي عمل على تطوير بيئة الأخبار، وإبراز هوية سعودية أوضح في الإعلام، وفتح المجال أمام وجوه شابة أثبتت حضورها.
هذه الأدوار العملية تؤكد أن التحول الإعلامي لم يكن مجرد شعار، بل جهد ميداني تراكم عبر خبرات وقرارات مؤسسية.
ومن خلال متابعتي ولقاءاتي بعدد من هذه الوجوه الإعلامية الشابة، لمست وعياً حقيقياً وإصراراً على تقديم خطاب مهني يليق بالمملكة، ويكسب ثقة الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج.
ما يلفت النظر هنا هو أن هذا التطور لم يقتصر على جذب النخب المثقفة، بل امتد ليشمل شرائح واسعة من الناس. فالمشاهد العربي الذي يبحث عن مادة فكرية عميقة يجد ضالته في هذه البرامج، ورجل الشارع الذي ينجذب عادة إلى موضوعات بسيطة، أو موسمية، أصبح يتابعها بدوره حين يجد فيها صدقاً ومباشرة لا تُقدَّم في وسائل أخرى.
بهذا المعنى، حقق الإعلام السعودي نقلة نوعية من الترفيه والاستهلاك السريع إلى الحوار المنتج للفكر، وهو ما يُعد إنجازاً حضارياً بامتياز.
ورغم النجاحات التنموية الكبرى التي حققتها المملكة في مجالات متعددة، لا يزال هناك من يشكك، أو ينظر بعين الناقد، بل أحياناً بعين الحاقد، إلى حجم هذه التحولات أو إلى أولوياتها.
غير أن ما لا يمكن إنكاره أن الجانب الإعلامي والثقافي، بما شهده من قفزات نوعية وفتح مساحات غير مسبوقة للحوار والفكر، قد حقق إنجازاً يحسب للمملكة وقيادتها، إنجازاً يتجاوز الجدل العابر ليترك أثره العميق في الوعي العربي، وفي صورة المملكة لدى القريب والبعيد.
فالبنيان المتماسك لا يقوم إلا على أساس قوي ثابت، ولا شك أن أساسات عهد المملكة الجديد قد أرست ناطحات سحاب من الإعلام والثقافة الرصينة التي قلّ أن نجد لها نظيراً في منطقتنا.
Abdulaziz_anjri@