يقول المفكر الأميركي المشهور براين تريسي: "كل دقيقة تقضيها في التخطيط، فأنت توفر عشر دقائق في التنفيذ"، وهذا بالضبط ما يعنيه التخطيط الإنمائي.
غير أن التخطيط الإنمائي ليس وظيفة إدارية روتينية أو مهنة بيروقراطية سهلة، فهو عملية لا تخلو من التعقيد وكذلك من الصعوبات والتحديات، ومقوماتها الفكرية والإدارية والفنية على درجة عالية من الاحترافية، وربما هذا ما يفسر عزوف بعض الاقتصادات "الراكدة" عنه، ويستعاض عن التخطيط الإنمائي بمعالجات وسياسات تكون متسقة أحيانا، أو تكون ردود فعل متفرقة في أحيان أخرى، مما يجعل "الركود" سمة دائمة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وشواهد ذلك عديدة في الدول النامية.
والأمر نفسه ينطبق على قضايا أخرى مثل الإصلاح الإقتصادي والمالي والإصلاح الإداري وإصلاح التعليم التي قد تسبب "وجع الرأس" لصانع سياسات التنمية، لما فيها من تعقيدات ومتطلبات احترافية، فيركن إلى"الهون أبرك ما يكون".
فجوانب الإصلاح المذكورة عملية منهكة ومزعجة وطويلة الأمد وتحتاج إلى التركيز فكرا وممارسة،لكنها، في كل الأحوال، عملية لا بد منها.
الأمر نفسه ينسحب على التخطيط الإنمائي السليم والمُنجِز والفعال، فتشييد منظومة متكاملة لإدارة الإقتصاد والتنمية، أي منظومة التخطيط الإنمائي، أو إصلاح ما هو قائم منها عملية لا تخلو من الصعوبات، ويتعين أن تشمل جميع مكونات هذه المنظومة؛ مؤسسات وإدارة ونظم وبشر، ولا بد أن تبدأ أولا بإعادة النظر في الرؤية وتقييمها، وأقصد "رؤية الكويت 2035"، التي ربما تحتاج إلى إعادة تدارس توجهاتها وأهدافها، فلا يكفي أن نركز على أن نكون "مركزا ماليا و تجاريا"، رغم أهمية ذلك.
لكن ماذا عن النفط والصناعة والزراعة وقطاع الخدمات وغيرها من القضايا والأمور والأنشطة ذات الصلة بالنمو الاقتصادي؟ فتلك جميعا لا بد أن يتضح موقعها في ثنايا الرؤية، ودورها ومساهمتها في النمو والتنمية. وبيت القصيد هنا، إن كل ما حولنا تغير، ويتغير، وسوف يتغير، ولا ينبغي أن تبقى رؤيتنا على ما هي عليه، دون إعادة تقييم ومراجعة.
ومن زاوية أخرى، فإن حقيبة التخطيط الوزارية، رغم أهمية دورها، إقتصرت على الأمانة العامة للتخطيط التي تتنقل من حقيبة إلى أخرى.
وإذا أخذنا في الإعتبار الدول التي نجحت في التخطيط الستراتيجي، وقد أشرنا إلى أمثلة عنها في المقالة السابقة، فسنرى أن المسؤول عن التخطيط الستراتيجي في تلك الدول يؤدي دور "مفكر الدولة"، وتلتقي عنده مسارات التنمية والاقتصاد المختلفة لضمان الوحدة في الغايات والتنسيق والتعاون و لعمل التنفيذي المشترك، وهذا ما يعنيه التضامن في شقِّهِ التنموي.
غني عن البيان، أن التخطيط التأشيري هو نمط من التخطيط يأخذ بكل اعتبار آليات اقتصاد السوق ودور القطاع الخاص كقاطرة للنمو والتنمية، ولذلك فهو على درجة عالية من الاحترافية وله مقومات فنية عديدة ليس محلها هنا، وليس أقلها النموذج الحاسوبي للتوازنات الكلية، الذي دونه لا تخطيط تأشيري، وهو ما يعد مسألة احترافية وفنية عالية.
فالدور الفعال للقطاع الخاص يتطلب التحرير التدريجي للأسواق، والتحول التدريجي والمطرد للقطاع العام نحو التنظيم والرقابة والإشراف، وذلك كله لا بد أن يكون عملية منظمة ومتسقة، وفي إطار من التخطيط الإنمائي.
المدير العام السابق للمعهد العربي للتخطيط