منذ عقود طويلة، لم تكن الجنسية في الخليج مجرّد وثيقة انتماء، بل أداة سيادية استُخدمت في لحظات دقيقة لتعزيز المصلحة العليا للدولة، حين كانت الكفاءة هي جواز الانتماء الحقيقي.
ومن بين هذه اللحظات التي تكشف كيف تحوّلت الجنسية إلى أداة سيادية، تبرز قصة جميل البارودي، الرجل الذي شكّل حضوره استثناءً في تاريخ السياسة السعودية. وُلد في لبنان لعائلة مسيحية. ومُنح الجنسية السعودية بقرار استثنائي، بعدما التقى بالأمير فيصل بن عبدالعزيز، رحمه الله، في لندن عام 1939، ونشأت بينهما صداقة استمرت لعقود.
كلّفه لاحقاً الملك فيصل بتأسيس أول مكتب سعودي في نيويورك، ليصبح أول مندوب دائم للمملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة منذ عام 1946، ثم سفيراً لها في واشنطن حتى وفاته عام 1979.
تكشف قصة البارودي أن السعودية، في لحظة إعادة تأسيس دقيقة، اختارت الكفاءة على أي اعتبار آخر، وأدركت أن حضورها الدولي يستلزم مرونة لا تمس الهوية، ومهنية تُخدم بمنطق الدولة، لا تعيقها الحواجز.
وفي المقابل، مثّل طلعت يعقوب الغصين، وهو فلسطيني من مدينة الرملة، أحد أبرز النماذج المبكرة للتجنيس الاستثنائي في الكويت. فقد استدعته الدولة الناشئة للاستفادة من خبراته في العمل الإداري والديبلوماسي، وفي عام 1961 منحه الأمير عبدالله السالم الصباح، رحمه الله، الجنسية الكويتية بقرار استثنائي، ليكون ضمن النخبة التي أسهمت في بناء مؤسسات الدولة الحديثة.
برز دوره منذ اللحظة الأولى للاستقلال، إذ شارك في الوفد الكويتي إلى الأمم المتحدة عام 1962، في أول حضور رسمي للكويت على الساحة الدولية.
وبعدها تولى مناصب ديبلوماسية رفيعة، فكان ثاني سفير للكويت في واشنطن، ثم سفيرا في المغرب، ولاحقاً في اليابان، مما جعله شاهداً وفاعلاً في صياغة علاقات الكويت الخارجية خلال عقدي الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
إن تجربة تجنيسه جاءت لتلبية مصلحة وطنية، وجسّدت سياسة واعية استهدفت استقطاب الكفاءات لخدمة الدولة. ومن خلال هذا المثال، عبّرت الكويت عن انفتاح مؤسسي جعلها قادرة على تعزيز حضورها الدولي وترسيخ مكانتها في المحافل العالمية.
والعبرة في هاتين القصتين، أن الدولة حين تكون في طور التأسيس سابقا، أو في مواجهة تحديات ستراتيجية متغيرة حاليا، تحتاج إلى أدوات مرنة تحفظ المصلحة، ويكون فيها التجنيس حاجة لا ترف، والرغبة في احتواء الكفاءات ضرورة.
ولقد مارست السعودية ودول الخليج عموماً، ولا تزال تمارس، نهجاً حصيفاً يُعيد تعريف المصلحة العليا، وينتهجون نمطاً ذكياً من التجنيس السيادي الوظيفي؛ مدروساً ومحكوماً بحسابات دقيقة تخدم مشروع الدولة، لا مزاج الأفراد.
أما سلطتنا التنفيذية التي نُقدّر حسن نواياها، فقد اختارت أن تعرّف المصلحة العليا للكويت بطريقة مختلفة، إذ جرى سحب الجنسيات بشكل مكثّف، وكأننا نعالج نزلة برد بجرعات من العلاج الكيماوي بينما لا نعاني أصلاً من سرطان. معالجة قاسية، قد تثبت الأيام أن ضررها فاق نفعها.
الدولة الذكية ليست تلك التي تُقدّس النصوص، بل تلك التي تُحسن تجاوزها حين تقتضي المصلحة العليا، فتحمي الغاية لا الشكل. فلا تكون كمن يحتضن رضيعَه بشدة داخل بيت محترق، فيفقد أنفاسه من غير قصد وهو يريد إنقاذه؛ فنقول: أحسن النية، لكنه أضاع الغاية.
وكما قال الصديق الكاتب الأديب العراقي الدكتور جمال حسين علي، حين سُئل عن رواياته: "أنا لم أكتبها لهذا الجيل، أملي أكبر في الأجيال المقبلة". وأنا أيضاً، أكتب للغد لا لليوم… فالحقيقة يجب أن تُقال في كل ظرف. الجنسية لم تُخلق لتكون سوطاً بيد السلطة التنفيذية، بل أداة بيد الدولة ومشروعها الوطني.