قيل: السّلاح زينة الرِّجال! إنّ دَحضَ هذا القَول سهلٌ جدًّا، فأيُّ منطق يُجيز أن تكون آلة القَتل زينةً يتباهى بها الرِّجال؟ وإِن حصل، فهذا يعني العودة الى الهمجيّة وسيادة العنف الوحشي، واغتيال القِيم الحضاريّة، وفي رأسها شرعة حقوق الإنسان. والبديل الموضوعي هو: "الصّدق زينة الرّجال".
رّغم أنّ الناس، كثيرُهم مغلوب على أمره، لكنّهم، في داخلهم، يدركون الحقيقة، ويعلمون أن الصّدق وحدَه يحرّرهم، ويؤمّلهم بوطنٍ مستقرّ، آمِن، وضامن لمستقبل أجيالهم، وليس السّلاح على الإطلاق.
وهذا يعني أنّ في الصّدق، وحدَه، ملمحَ خلاص الوطن ممّا يعانيه من أحداث وصدمات أطبقَت على حقّه بحياةٍ كريمة، كانت نتيجةَ مؤامرات مشبوهة نهبت سيادته، ووضعته فوق فوّهة جهنّم.
إنّ الصّدق هو في صُلب القِيم الأخلاقية، ومن أهمّها، ويعني الإخلاص في النِيّة، والوفاء بالعهود، والالتزام بالحقّ قَولاً وفِعلاً. من هنا، كان الصّدق أساساً لترسيخ الثّقة بشخص ما، ومرجعاً لتأكيد الاطمئنان إليه، ومفتاحاً لبناء علاقة يرتاح إليها القلبُ والعقل.
وقد توافقَت المعتقدات الإثنولوجيّة على أنّ الصّدق هو من الفضائل التي تسمو بالإنسان الى مصاف النّبل والاحترام، ليحوز على الثّقة وحسن التّقدير. أمّا علم نفس السّلوك فيعتبر أنّ الصّدق هو سلوك نُضجٍ يعمل على حماية قيمة النزاهة، ويُكسِبُ الاستقامة صدقيّتَها.
إنّ الإشكالية التي تفرض نفسها، في هذا المجال، هي: هل يوجد رِجال صدق في مكوّنات المسؤولين السياسيّين الذين يتولّون الشّأن العام في الوطن، ومصالح الناس، وإدارة الدولة، والقيادات الشعبية، أو هل هناك مسؤولون يتمتّعون بقِيَمٍ سامية، أبرزها صفاء النّفس، ونقاء السّيرة؟
كان لبنان قلب النّهضة في الشّرق العربي، ونافذة الإخوة العرب على الثقافة العالميّة، ما أدّى الى التّلاقح الحضاري الذي شملَ النُّظم السياسيّة، والقوانين، والعلوم، والفنون، وسواها... فامتازت هويّة الأمّة بالرقيّ والتقدّم.
لكنّ الجسر الذي عبرَت عليه ثقافة الحياة الى لبنان، ومنه الى الشّرق، قد دَكَّته الأحداث و"رِجالُها" المُتَبَرقِعون، كذِباً، بهالة الصّدق، والبارعون في الغشّ والمخادعة، والمساومة على حقّ الوطن، واقتناص الفرص السّانحة لكَنزِ جيوبهم، ولِصَونِ رؤوسهم وإِنْ مُطَأطَأة.
إنّ الرّجلَ الصّادق الذي ينتظره لبنان، هو ذاك الذي ينظر إلى الحقيقة ويسمّيها باسمها، فحسبُهُ أن يُرضي الحقّ، لا وليَّ النّعمة، أو مَنْ يحرّكه من الخارج، وهو الذي يجعل الصّدق نهجاً ثابتاً في سلوكه ووعوده.
أمّا المعروفون الذين يدّعون أنّهم صَفوة البشر، ويجهلون أنّ الحياءَ والصّدق، لا الكبرياء والشّوفينيّة، هما الدّلالة على أصالة الإنسان، بالإضافة الى رجاحة عقلِه وعملِه، فهم الذين سَقَوا لبنان كأس المؤامرات، وقطّعوا أوصالَه، وعرضوه في سوق نخاسة العَمالة بأبخس ثَمَن.
متى نقفُ وقفة تأمّل، صادقة لا مداراة فيها ولا مسايرات، نترصّد نور الحقّ، ونسأل عن سبب ما حلّ بنا من كوارث على يد طُغاةٍ بلديّين، وأوصياء من خارجٍ، ولماذا لم تتقارب المجموعات والمعتقدات بدلًا من التّباعد، ولم تتناصر بدلًا من التّناحر، لماذا نحروا هويّة بلادنا، واغتالوا خصوصيّتها، وقطعوا الطّريق على محيطها والعالم؟
إنّ لبنان، كياناً ومصيراً، هو في ذمّة الشّرق والغرب، ومَنْ يتغاضى عن الطّريق الى عمق لبنان، فقد يفوته إدراك هويّة هذا البلد الفريد، ملتقى الحضارات والديانات والثقافات، بصيغةٍ مرشَّحة لأن تكون مثالَ العيش المشترَك في كُرةِ الأرض المسكونة.
لكن، وقبلَ أن نتّهمَ بعض الخارج بالعمل على تقويض وجود لبنان، وطناً ودولة وصيغة، وقد تلوّثت أيدي هذا البعض بدماء شهداء شرفاء من هذا الوطن، لا بدّ من الالتفات الى الذين تبوّأوا السلطة، هنا، على مدى عقود طويلة، وعهود متراكمة، لنرى نسبةَ الصّدقِ في جبلتِهم، وامتداد جذوره في سلوكهم، ومدى استقامته في قراراتهم وأعمالهم... ساعتذاك، نرى الحقيقة في ذروة تجلّيها، دون ادّعاءات ومبالغات فارغة، ونقف على عمق المشكلة اللبنانيّة.
إنّ رجال السياسة في لبنان يخفون التباسات وفيرة، وهبّاتٍ لا تُعرَفُ اتّجاهاتها، ومراميها، هل هي تنشد الإصلاح وإِعمال موازين الحقّ والعدل، بكلّ شفافيّةٍ وصدق، أم تستبطنُ مساراً فاسداً يحمل شرارةً لكوابيس تمدّ سلاسلها حول عُنقِ الوطن؟
الواضحُ الجليّ أنّ الصّدقَ لمّا يزل في خبرِ كان، وما يروّجُه بعضُهم عن الإصلاح، لم يكن إلّا اصطناعياً، لذلك، لا بدّ من المطالبة بإنشاء "مؤسّسة للصّدق الوطني ضدّ الفساد".
كاتب، أستاذ جامعي لبناني