المشاهد المأسوية لأطفال غزة الجوعى والمعذبين والمنكوبين، تكرار لمأساة مستمرة منذ العام 1948، مع بعض الإضافات المرعبة، ولأن الحقيقة تجرح الذين يستفيدون من هذه الصور، خصوصاً من أطلق الحرب الأخيرة في السابع من أكتوبر عام 2023، وكأنه مبرمج على خدمة إسرائيل، أكان يحيى السنوار أم محمد ضيف أم غيرهما.
إن هذا دليل واضح كيف تعاطى العرب مع القضية طوال العقود الماضية، ورفضوا لغة العقل لمعالجة النكبة المستمرة فلسطينياً، لأنها لا تلبي طموحات الزعران وتجار القضية، الذين هم ذاتهم لا يتركون مناسبة إلا ويكيلون المديح للنظام الإيراني، وجماعاته في العالم العربي، لأنه يخدم سعيهم إلى المزيد من الابتزاز، حتى لو كان ذلك بدم أهلهم، وشعبهم.
هذه الحقيقة يعمل قادة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وبعض الفصائل الفلسطينية على إنكارها، ويستمرون في خلق أكاذيب عن الانتصارات الوهمية، لغسل أدمغة الناس البسطاء، غير عابئين بالنهاية التي سيكون عليها شعبهم.
من هنا، تناسى هؤلاء ما قدمته الدول العربية، كمصر، أو دول الخليج، كالسعودية، للقضية الفلسطينية، لا سيما الجهود الديبلوماسية والمواقف التي انتهت إلى تأييد نحو 150 دولة لإقامة الدولة الفلسطينية، ورفضوا الدخول في منظمة التحرير، كي لا يلتزموا قراراتها المتماشية مع وجهة النظر العربية، مفضلين عليها التزام خدمة مصالح النظام الإيراني.
ولأن العرب بصراحة لا يقرأون التاريخ ويستفيدون منه، وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما نُسب إلى وزير الدفاع الإسرائيلي موشى ديّان "إن العرب لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يطبقون"، فهم، لا سيما القادة الفلسطينيين، لم يدركوا الإشارات الواضحة التي أطلقها ديفيد بن غوريون، قبل إعلانه الدولة، وبعدها، وتصميمه على عدم وجود خارطة لتحديد حدود دولته.
في المقابل، لم يدرك العرب أيضا أن نتائج الحرب العالمية الثانية، والتخلص الأوروبي من إزعاجات اليهود لمجتمعاتهم، خصوصاً الإرث الدموي، وتكفيراً عن الذنب عن التقصير في حمايتهم من النازية، دفعت إلى تأييد إقامة كيانهم، ومساعدته أن يصبح بتلك القوة، خصوصاً أن الرابح الأكبر من تلك الحرب هي الولايات المتحدة الأميركية التي قامت نهضتها وقوتها على العلماء اليهود المهاجرين والأموال اليهودية.
في المقابل، لا يمكن إنكار أن العرب، وقادة الفصائل الفلسطينية، لم يتركوا مناسبة إلا أظهروا جهلهم بتجارب الشعوب الأخرى، والنفوذ الذي تتمتع بها الحركة الصهيونية، ولم يدركوا ماذا تعني إشارة الاتحاد السوفييتي الاعتراف بإسرائيل فور إعلان قرارها في الأمم المتحدة، لكن بعد نحو ربع قرن، كان الرئيس الراحل أنور السادات، وحده الذي عرف ماذا يعني ذلك، أن هزيمة اسرائيل ليست ممكنة، وفق الإمكانات العربية المحدودة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه حين طلب السادات الأسلحة من الاتحاد السوفييتي، قبل حرب أكتوبر عام 1973، قال السوفييت له: نلبي كل طلباتك بشرط وحيد عدم المس بالحدود الإسرائيلية، لأنها محمية دولياً، ومن القوى العظمى.
لهذا، حين يطالب العرب إسرائيل بالسلام، ونواياهم صادقة في هذا الشأن، فهناك من يستمر في خدمة تل أبيب، وأولهم الفصائل الملتصقة بإيران التي تستخدمها بيادق في لعبة مصالحها، مثل ما فعلته قبلها مصر جمال عبدالناصر، وسورية حافظ الأسد، وعراق البعث، وغيرها من القوى التي عملت على المتاجرة بالقضية الفلسطينية.
لهذا، فإن المشاهد المأسوية اليومية التي نشاهدها من قطاع غزة، هي أكبر خدمة لإسرائيل التي تسعى إلى إفراغ القطاع من أهله، وكذلك تهجير أهالي الضفة الغربية، التي كانت نواة الدولة الفلسطينية، فيما اليوم تتعرض إلى تهجير ممنهج.
لذا وجب السؤال: هل هكذا تتحرر فلسطين، أم أن لغة العقل والجهود التي بذلتها الدول العربية المعتدلة، التي باتت تتحدث بلغة العصر، ومنحت الدولة الموعودة كل هذا الزخم الذي يظهر اليوم في الأمم المتحدة، وليس نضالات سكان الفنادق الذين استثمروا بدم شعبهم، ومصيره؟
من المهم النظر إلى خطاب الرئيس محمود عباس في الأمم المتحدة على أنه خريطة طريق أمام العالم أجمع باتجاه الدولة الفلسطينية، التي باتت اليوم أقرب من أي وقت مضى، بشرط إبعاد فصائل حرب الفنادق عن قطاع غزة، والضفة الغربية، كي لا تتكرر المأساة مرة أخرى، ونعود إلى اجترار النكبات.