ما يجري اليوم في المنطقة ليس تعديلاً تكتيكياً في التحالفات، بل إعادة ضبط منظومة موازين القوة على مستويين، إقليمي ودولي، هذا التحول يعكس تلاقحَ عوامل خارجية (انحراف تأثير القوى التقليدية وصعود لاعبين جدد)، مع عوامل داخلية (إصلاحات اقتصادية، ضغط ديموغرافي وبيئي، وتغير أولويات النخب الحاكمة).
أولاً، انعكاس قوة الصين كوسيط وشريك اقتصادي بات واضحاً، وساطتها في مصالحة سعودية–إيرانية، إضافة إلى زيادة ضخ استثمارات، ومشروعات بنية تحتية صينية في الخليج وبلدان عربية، يغيّر قواعد اللعبة، ويمنح قوى إقليمية هامش مناورة أوسع تجاه واشنطن التقليدية. ثانياً، نمط العلاقات العربية–الإسرائيلية الجديد (المتمثل في اتفاقيات التطبيع، والعلاقات الاقتصادية المتنامية) قلّص منطق المواجهة الأحادية، وأعاد صياغة أولويات دول الخليج ومصر والأردن، بحيث بات الأمن الاقتصادي والتقني محوراً أساسياً في السياسات الخارجية، مع أثر مباشر على ترتيب التحالفات الإقليمية. ثالثاً، المشهد الأمني لم يعد تحت سيطرة لاعب واحد، تواجد روسيا في سورية، وتنافس الفاعلين الإقليميين (تركيا، إيران، الإمارات، السعودية)، يخلق ساحة تحالفات مرنة ومتغيرة، بينما تبقى إيران قادرة على التأثير عبر وكلائها، وكل ذلك يجعل إدارة الأزمات أكثر تعقيداً، وأقل اعتماداً على حلٍ واحد تقوده قوة خارجية وحيدة. رابعاً، تراجع الأولوية الأميركية التاريخية للشرق الأوسط لصالح التركيز على المحيطين الهادئ والهندي، يدفع الأنظمة الإقليمية للبحث عن شراكات بديلة، وتعزيز الذاتية الستراتيجية اقتصادياً وعسكرياً وديبلوماسياً.
هذا لا يعني رحيل الولايات المتحدة، لكن دورها أصبح أحد عناصر منظومة متعددة الأقطاب بدلاً من لاعب وحيد مرسخ للهيمنة
النتيجة العملية، "شرق أوسطٌ جديد" قائمٌ على تعددية الشُركاء، اقتصاديات متقاربة حول الطاقة والتكنولوجيا، وأمن إقليمي مرن قائم على تفاهمات ثنائية، ومتعددة الأطراف بدلاً من محاور جامدة. لكن هذا التحول يحمل مخاطرة تشتت الردع، دور متزايد للفواعل غير الدوليين، وإمكانية اندلاع صراعات محلية تُجرّ شركاء خارجيين إلى دوامة تصعيد. الخلاصة التحليلية أن النجاح في عصر "الشرق الأوسط الجديد" لن يكون لمن يملك أوراق القوة التقليدية فقط، بل لمن يبني مؤسسات إقليمية قادرة على إدارة النزاعات، ويستثمر في اقتصادات معرفية، ومصادر طاقة متجددة، وينجح في تحويل المنافسة إلى شراكة عمل، فهل تكون دول الخليج ــ وهذا ما نتطلع اليه ونأمله ــ ان تكون هي "السبّاقة" الى ذلك، ونحن نرى، ولله الحمد، الخطط والستراتيجيات الناصعة، وطرح رؤية للمستقبل تعيشها بلدان المنطقة.
كاتب سعودي