إن فهماً صحيحاً ومتعمقاً لأهداف التنمية المستدامة التي صاغت أجندتها الأمم المتحدة، وحشدت المجتمع الدولي، خصوصا الدول النامية، للعمل على تنفيذها ومتابعتها، فهمٌ كهذا يتطلب الرجوع للأحداث والتطورات التي شهدها العالم في القرن الماضي، وتحديداً بعد إنتهاء الحرب الباردة بين القطبين، السوفياتي والأميركي، وسقوط الأول وخروجه من الساحة الدولية، وهيمنة الثاني على النظام العالمي في إطار ما أصطلح على تسميته بالعولمة.
وفي إطارها ما أصطلح على تسميته النظام العالمي الجديد، وفي قلبه إقتصاد عالمي فيه معطيات جديدة، وتحديات مستجدة، ومنافسة صعبة.
قد سبق ذلك، ما كان أشبه بنداءات من المحافل الغربية والمؤسسات الدولية المانحة، صندوق النقد والبنك الدولي، للدول النامية بضرورة التصحيح القتصادي الهيكلي، والخصخصة، وتحرير الأسواق، وتحرير العملة، والتنمية البشرية، والحوكمة الرشيدة، وغيرها من المتطلبات لتأهيل تلك الدول للإندماج بالإقتصاد العالمي، وبناء القدرات لشراكات عالمية تؤهلها للمشاركة في سلاسل القيمة.
غير أن كل ذلك لم يجد آذان صاغية، ولا صدى في إدارة الإقتصاد والتنمية، فازدادت الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية، وتقدمت الأولى وتراجعت الثانية، فكان ما كان من تحول العولمة إلى هيمنة.
وقد قيل قديما، الجاهلون بالتاريخ محكوم عليهم بتكراره، وهكذا تكرر الأمر، حين أعلنت الأمم المتحدة أهداف الألفية للتنمية، وشملت ثمانية أهداف اعتمدتها 189 دولة عام 2000. ومنها القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتقليل وفيات الأطفال والأمهات، ومكافحة الأمراض، وضمان الاستدامة البيئية، وإقامة شراكة عالمية للتنمية.
وكان إطارها الزمني ينتهي عام 2015، وتلك أهداف تعتبر من أبجديات التنمية ومتطلبات أساسية لا تحتاج في حقيقة الأمر أجندة دولية لتحقيقها، غير أن الأمر يتعلق بدول لم تتمكن من تحقيق تقدم ملموس، رغم أن العالم دخل الألفية الثالثة، وسجلت الدول المتقدمة، وبلدان شرق آسيا، إنجازات حضارية تفوق تلك الأهداف، ولذلك، فإن تلك الدول لم تكن معنية بتلك الأهداف، وقد تجاوزتها منذ عقود.
وعود على ذي بدء، احتفت الأمم المتحدة عام 2015 بتدشين أجندة أخرى وهي "التنمية المستدامة"، وكانت أهدافها، هذه المرة، بمحتوى أشمل، وغايات أوسع، وآليات أكثر إلزاما. فلماذا لم تكتفِ الأمم المتحدة بما تحقق من أهداف الألفية؟
الحقيقة أن ذلك يعود إلى أن ما تحقق كان أقل كثيراً من التوقعات، وكان مستوى الإنجاز في غالبية الدول النامية أدنى كثيراً من الطموحات، فكان السبعة عشر هدفاً و169 غاية التي حددتها الأمم المتحدة ضمن أجندة التنمية المستدامة، ولسان حالها يقول "هل من مُجيب".
لماذا كان الإنجاز منخفضا في أهداف الألفية؟ لأسباب عدة على رأسها؛ ضعف الإدارة والمؤسسات والبيروقراطية، وغياب التخطيط الفعال ونقص التمويل، وضعف الكوادر الفنية والمهنية، والإختلالات الإقتصادية والمالية الهيكلية، أي، بكلمات أخرى، إن الإشكاليات الرئيسية التي كانت تواجهها قبل الألفية بقيت قائمة، وتتطلب مواجهة ومعالجة جدية وفعالة.
مضت عشر سنوات، وبقي خمس، من عمر أجندة التنمية المستدامة، أي مضى ثلثي الفترة الزمنية المحددة لتحقيق أهدافها، فماذا تحقق؟ تحقق الكثير ولم يتحقق الكثير، وتتفاوت الدول في ما بينها في الاثنين، إذ تحقق تقدم في مكافحة الفقر والصحة والتعليم وتمكين المرأة والبيئة، وهذا ما أشار إليه تقرير المتابعة للأمم المتحدة للعام 2025، لكن التقرير حذَّر كذلك من أن هذا التقدم محدود في وتيرته وحجمه، وأشار إلى أن 35 في المئة من الأهداف حققت تقدما معتدلا، بينما 18 في المئة في تراجع.
في حين أن النسبة المتبقية لا تتوافر بيانات كافية لتقييمها ويرجح إما أنها على حالها، أو شهدت تراجعا كذلك، وفي ضوء ذلك، نصح في التقريرضرورة بما وصفه "طوارئ تنموية" للدلالة على أن الوضع أقل من الطموح، والمطلوب والمتوقع ويتطلب ضرورة الإسراع في جهود التنمية، حتى لا يفوت القطار وتحتاج الدول النامية إلى أجندة أو أجندات أخرى تكرر نفسها دون طائل.
و في ضوء ذلك، تشير المداولات في أروقة الأمم المتحدة، وبعض الدراسات، إلى أن الإستعدادات جارية لمرحلة ما بعد أجندة التنمية المستدامة، إما بتجديدها، أو تمديدها، أو رفع سقف أهدافها، لتشمل ما يتعين فعله إزاء العقبات والتحديات، التي حالت دون تحقيق النتائج المرجوة منها.
إن ذلك ليس كل شيء، فمرحلة ما بعد التنمية المستدامة، أي ما بعد 2030، ستحمل معها تحولاً كبيراً عما كان في أهداف الألفية والتنمية المستدامة، فلم تعد الأهداف التقليدية المشمولة بالاثنتين هي كل شيء، بل ستضاف إليها أهداف أخرى أنتجتها التحولات العالمية المتسارعة.
وإذا كانت نتائج أجندة التنمية المستدامة لم تكن بمستوى التوقعات والطموحات، شأنها في ذلك شأن أهداف الألفية، فكيف سيكون الأمر في ظل تحديات ومتغيرات جديدة ومعقدة، على رأسها؛ التغير المناخي وندرة الموارد المائية والغذائية، ونقص التمويل، وإرتفاع المديونية، وتزايد الفجوة بين الدول النامية والمتقدمة، والفجوة الرقمية والذكاء الاصطناعي.
وهذا غيض من فيض من التحديات التي ستكون فيها التحديات الصعبة أصعب، والصعاب الكبيرة أكبر، وطريق التنمية الشائك سيكون مكتظا بالأولويات التي كانت أهدافاً ممكنة فغدت صعبة المنال، وهذا ليس تشاؤما، بقدر ماهو تنبيه من الغفلة للدول النامية.
المدير العام السابق للمعهد العربي للتخطيط