هناك من يعتقد أن الوضع الذي كان سائداً، أيام مجالس الأمة، لا يزال مستمراً، وأنه يستطيع فرض إرادته على الغير، حتى لو كان أقل منهم في المستوى الوظيفي، لأن "عروقه في الماي"، وهذا لاشك مخطئ، فالظروف تغيرت كثيراً، وعدم الإفصاح عن المعلومات المناسبة لاتخاذ القرار، ومحاولة الاحتيال على القانون لم تعد قائمة.
في السابق، لم تكن هناك محاسبة للمسؤولين على تصرفاتهم، لأن التدخلات كثيرة، وكل واحد يحتمي بآخر أكبر منه، إذا "حجت حجايجها"، فإن استجواب الوزير، أو حتى رئيس مجلس الوزراء، جاهز، وكذلك طرح الثقة موجود على الطاولة.
لذا، في تلك الأيام كانت المشاريع الإنمائية تتعطل لأن أحد النواب إما أنه لم يجد مصلحة له في المشروع، وإما لم يعجبه اسم الشركة، وإما عارض بإيعاز من متنفذ ما، وكل هذا له ثمنه، إما خدمات وتعيينات، أو غيرها، مما يغري ضعاف النفوس.
لهذا، خسرت الكويت الكثير، وساعد ذلك على تخلفها عما يجري في العالم ككل، والمنطقة تحديداً، كما طارت صفقات كبرى، كانت فيها منافع للدولة.
في المقابل، كان بعض الوزراء يعيش في برج عاجي، ولا يتعاطى مباشرة مع قضايا وزارته لاتكاله على مستشارين ومديرين ووكلاء، الكثير منهم عيّنهم نوابا ومتنفذين مصالحهم تتعارض مع المصلحة العامة.
بعض هؤلاء لا يزال في مناصب، يدير مصالح من عيّنه، وليس الإشراف على العمل العام بنزاهة وشفافية، كما هو مفترض، ولخدمة الدولة والشعب، وليس العمل لهذا أو ذاك.
جراء ذلك، لا نستغرب على صعيد المثال، تعطل مشروع بناء مدينة الصابرية، لبناء 55 ألف وحدة سكنية، لأن البيروقراطية فعلت فعلها، وبسبب الخوف من اتخاذ القرار.
المؤسف في هذا الأمر، أن الشركة الصينية التي جرى توقيع الاتفاق معها، نفذت الكثير من المشاريع في دول عدة، ومنها المملكة العربية السعودية، وكان أحد المشاريع أكبر من مدينة الصابرية، كذلك فإن حجم أعمالها في العالم يزيد على 150 مليار دولار، ورغم خبرتها الطويلة، إلا أن المشروع تعرقل.
هذا الأمر واحد مما نراه اليوم، وهو لا شك يؤدي إلى الكثير من العقبات أمام التنمية المنتظرة، بفارغ الصبر كي تنهض الكويت من كبوتها، وتستفيد من الفرص المتاحة في الإقليم والعالم، ولا تبقى أسيرة دورة مستندية طويلة، وبيروقراطية عفى عليها الزمن.
لكي تكسر هذه الحلقة المفرغة، لا بد من خطوة، ربما يراها البعض صغيرة، لكنها في الواقع كبيرة، فهي إشارة واضحة إلى أن الأمور تغيرت، وليس هناك من هو أكبر من القانون، بل الجميع تحت مسطرة المحاسبة.
لهذا، حين يأمر وزير التربية بتشكل لجنة من خبراء "الفتوى والتشريع"، وجهات قانونية أخرى، في ما يتعلق بطباعة الكتب المدرسية، وتأخر تسليمها، فهو بذلك يسعى إلى الشفافية، أولاً، ويكرس النزاهة كسلوك وليس شعاراً، كما أنه يقول علناً إن المرحلة الحالية مختلفة عما سبق، والمحاسبة "موس على كل الروس"، كما أنها إشارة واضحة كيف تتابع القيادة السياسية الأمور في البلاد، وكيف يترجم المسؤول الحريص على المصلحة العامة التوجيهات العليا.
(باريس)