لقد قرأنا موادّ الدّستور في سورية، والذي وُضِعَ في الرّبع الأوّل من القرن الماضي، وفرِحنا لِما تضمَّنه، لا سيّما في ما يتعلّق بالحريّات، وهي الحَيّز الذي يهمّنا، في هذا البحث، ولن نتطرّق لسواه.
قبلَ استعراض أهمّ المواد الدستوريّة التي تتعاطى مع قضيّة الحريّات في سورية، ينبغي الإشارة الى أنّ العهد البائد الذي تربّع فوق رِقاب السوريّين لعُقودٍ طويلة، قد عملَ، فورَ تولّيه السّلطة، على تعليق العمل بالدّستور، والاستعاضة عنه بجملة من المراسيم الاشتراعيّة التي تناسبُه، وأعلنَ قانون طوارئ، متذرِّعاً بحجّةٍ همايونيّة قوامها استرجاع الأرض المحتلّة في الجولان، ومكافحة الإرهاب، واعتبار البلاد، بعد حرب النّكسة، معرَّضة لانتهاكات أمنيّة من العدوّ الإسرائيلي الغاشِم.
لكنّ ذلك كلَّه لم يحصل، أمّا الذي حصل فهو إمساك البلد بيَدٍ من حديد، وممارسة الديكتاتوريّة ظُلماً، وقهراً، وقسوةً دمويّة بالغة، وقَمعاً، واعتقالاً تعسّفياً عشوائياً، وتعذيباً داخل السّجون، وحلّ الجمعيّات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والحقوقيّة، والتشدّد في معاملة النقابيّين، والأكاديميّين.
وممارسة احتكار السّلطة والفساد، وظهور الإمبراطوريّات الماليّة العائدة الى أركان الحكم، فيما أكثر من نصف الشّعب السّوري يعيش تحت خطّ الفقر، وتَجاهُل حقوق الإنسان، وفَرض الأحاديّة الإعلاميّة بكَمّ الأفواه، والأقلام الخارجة عن الإعلام الرسمي، الذي يؤدي دورُه على الأَدلَجة الـ"رّوبوتيكيّة الإيدانتيكيّة".
أمّا مسألة الانتخابات، مع العهد البائد، فهي طَعنٌ صريح لحقّ مشاركة الشّعب بحريّة، فرئيس البلاد يفوز بـ 99.99 في المئة من الأصوات، ليشكّل، وحدَه، المرجعيّة المُطلقة في الشؤون السياسية والقضاء والاقتصاد وغيرها.
أمّا مجلس الشّعب فهو، في الحقيقة، مجلس البَصْمِ للرئيس، فلا وجود، بتاتاً، لِما يُسَمّى معارضة، لأنّ أيّ مُعارِض سيكون مصيرُه القبرَ، أو السّجن مع الأشغال الشاقّة حتى يموت.
وبالعودة الى المواد الدستوريّة التي تتعاطى مع موضوع الحريّات، فإنّنا نقع على ما يلي:
-تتضمّن الفقرة الرّابعة من مقدّمة الدستور أنّ الحريّة حقّ مقدَّس، وأنّ الديمقراطية الشّعبية هي الصيغة المثاليّة التي تكفل للمواطن ممارسة حريّته التي تجعل منه إنساناً كريماً، قادراً على العطاء والبناء(...)وأنّ حريّة المواطن لا يصونها إلّا المواطنون الأحرار.
-تتحدّث المادة 25 من الفصل الرّابع عن أنّ من واجب الدولة الحفاظ على حريّة المواطنين، وأمنِهم، وكرامتهم، فالمواطنون متساوون في الحقوق والواجبات.
-تنصّ المادة 26 على حقّ المواطن في المساهمة في الحياة السياسيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة.
-تشير المادة 28، في بندها الثالث، الى أنّه لا يجوز تعذيب أحدٍ جسدياً، أو معنوياً، أو معاملته معاملة مُهينة.
-تنصّ المادة 35 على أنّ حريّة الاعتقاد مَصونة، وأنّ الدولة تكفل ممارسة الشّعائر الدينية.
-تمنح المادة 38 المواطن حقّ الإِعراب عن رأيه بحريّة، وعَلَنيّة، بالقَول والكتابة، كما تكفل الدولة حريّة الصحافة والإعلام وِفقَ القانون.
-تتضمّن المادة 39 الإشارة الى حقّ التَّظاهر السِّلمي، فيما ينظّم القانون هذا الحقّ.
واستناداً، يمكنُ الجَزم أنّه لا يوجدُ في أيٍّ من دساتير الدُّول الديمقراطيّة ما يتجاوز، في مضمونه وموادِه، نصوص الدّستور السّوري، في موضوع الحريّات. ويبدو جلياً أنّ المشكلة لم تكن في النّص، بل بالممارسة الملتوية التي اعتمدَها الحُكم السّابق، والتي طعنَت الدّستور في الصّميم، ولم يطرأ عليها، أبداً، ما يُعرَف بالإصلاح الأدائي، ليصدقَ ما قيل "اقرَأْ تَفرَح، عايِنْ تَحزَن". إنّنا نتوجّه الى القيادة الجديدة في سورية، بوجوب تطبيق الدّستور، فهو ليس بحاجةٍ الى أيّ إصلاح في مجال حقّ المواطنين بالحريّة، فالمطلوب تطبيقٌ سليم، وبهِ، فقط، تُقيم القيادة لكرامة الناس الوطنيّة وزناً، ويرتقي القيِّمون بذلك، الى أن يكونوا رياديّين. وننصحُهم بألّا يلتفتوا الى المواقف الاستعراضية التي يُتقنُها بعض البَهلوانيّين، في بلدانٍ قريبة من سورية، فهي ممجوجة، وهجينة، لأنها تتمادى في استغباء الشّعب، وتصدرُ عن حالة انفصامٍ، وعدم اتّزان، وطلاقٍ مع عمل العقل والرويّة والحسّ الوطني.
إنّ القيادة السورية الحالية، ومن خلال مواقفها وأدائها، تؤكّدُ على أنّ ستراتيجيّتها في الحكم، هي قيام دولةٍ مستقرّةٍ، قادرة، تؤمِّن مستقبلاً موثوقاً لشعبٍ تائقٍ الى أمانٍ في وطنٍ حرّ، لا تُحبَطُ فيه أحلامُ أجياله.
إنّ هذا المَطلب يشكّلُ العنوان العريض للسلطة القائمة، على مستوى إنتاج تغييرٍ وطنيٍّ متقدِّم، ورؤيَوي، لا يأخذُ في الاعتبار إلّا مصلحة البلاد، ويستعيدُ، بالتالي، ما ضُيِّعَ، سابقا، من حريّة السوريّين، وكرامتهم.
كاتب وأستاذ جامعي لبناني