يشهد عالمنا تحوُّلاتٍ سريعة في مفهوم التعليم والتعلّم، والتدريب والتمكين، وتبرز أمامنا فرصةٌ فريدةٌ تحملُ أبعاداً إنسانية وتنمويّة ما يجعلها "قَفزة" نوعية في مسيرة المجتمع.
أتوجّه اليوم بفكرة مشروعٍ جريءٍ وحيويٍّ لإنشاء "جامعة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة"، وذلك تحت مسمَّى: "الجامعة الأولى لذوي الاحتياجات الخاصة وللعلوم الإنسانية والتقنيات المساندة".
مشروع يضع في صميمه هدفاً مزدوجاً: تأهيل وتعليم ذوي الإعاقات بأنواعها، وإعداد معلّمين ومتخصصين، ومترجمين، ومُسهّلين لديهم القدرة على التواصل الفعال مع ذوي الاحتياجات، سواء كانوا لا يسمعون، أو لا يرون، أو لا ينطقون، أو يحتاجون إلى وسائل تواصل بديلة.
لماذا الآن هذا المشروع؟
1- العجز في الكوادر المتخصّصة: لدينا في المجتمع العربي، والكويت تحديداً، عجزٌ واضحٌ في المعلمين المؤهلين للتعامل مع طيف ذوي الإعاقة، سواء في مدارس التعليم الأساسي، أو التعليم العالي، لذا فإن إعداد برامج جامعية متخصصة في الترجمة، ولغة الإشارة، و"برايل"، والتواصل البديل يصبح ضرورة لا رفاهية.
2- تحقيق العدالة والدمج: التعليم يشكّل حقاً أساسياً، لكن غالباً ما يُحرم أصحاب الإعاقة من فرص متكافئة في التعليم العالي، أو التعلّم الإنتاجي. هذه الجامعة ستكون بيئة مهيّأة بالكامل- بنية تحتية ذكية، تقنيات مساندة، شخصيات أكاديمية متمكّنة - تتيح الدمج الحقيقي والتمكين الفعلي.
3- الابتكار الاقتصادي والاجتماعي: من خلال تمكين ذوي الإعاقة ليكونوا منتجين، ومبدعين، ومشاركين في سوق العمل، نفتح آفاقاً جديدة للريادة الاجتماعية، والتكنولوجيا المساعدة، والمهن غير التقليدية. وستصبح الجامعة مختبراً وطنياً/إقليمياً لهذه التقنية والتطبيقات.
4- الفرصة التاريخية: إننا نملك في الكويت، والعالم العربي، قاعدة اجتماعية، وتطوّرات تقنية، وإرادة دولية لتعزيز حقوق ذوي الإعاقة؛ لذا لديّنا الفرصة لنكون الأول في هذا المسار، أو على الأقل من الأوائل، بما يعكس صورة إيجابية تُسجَّل على مستوى الوطن.
لماذا "الأولى على مستوى العالم"؟
عند مراجعة التجارب العالمية، نجد جامعات متخصصة في نوع معين من الإعاقات (مثلاً للصم، أو للّذين يعانون من مشكلات سمعية أو بصرية)، أو برامج داخل الجامعات الكبرى.
لكن لا توجد حتى اللحظة جامعة خاصة شاملة تضع في قلب رسالتها إعداد المعلمين، والمترجمين، والمُسهّلين لذوي الإعاقات المتنوّعة، وتعلّم الطلبة ذوي الإعاقة بالقدر من الأهمية، وتضم بين مهماتها التقنية والمساندة، والبحث والتأهيل، والتدريب المهني.
وبالتالي، فإن مشروعنا- إن عُدّ بهذه الشمولية - سيكون فعلياً الأول على مستوى العالم، وليس فقط على مستوى المنطقة.
التوجهات الستراتيجية للمشروع:
أولاً: إعداد المعلمين والمترجمين والمُسهّلين: برنامج بكالوريوس/ماجستير يُعنى بلغة الإشارة العربية، (البرايل والقراءة الميسّرة)، "التواصل المعزّز والبديل"، الترجمة البصرية والسمعية، إدارة الصف الدامج، وتقييم الاحتياجات وسُبُل الدمج.
ثانياً: تعليم وتأهيل ذوي الإعاقات:
كليات متخصصة أو مسارات في الجامعة تشمل ذوي الإعاقة البصرية، والسمعية، والحركية، والتواصل، مع بنية تحتية كاملة (كل القاعات مهيّأة، وسكن طلابي مكيّف، وتقنيات ذكية).
ثالثاً: تقنيات مساندة وإنجاز ابتكارات:
مختبرات بحثية وتطبيقية لتطوير أجهزة مساعدة، وبرمجيات، وتطبيقات الهواتف الذكية، تناسب البيئة العربية، مع شراكات عالمية ومحلية.
رابعاً: دمج وتمكين اجتماعي واقتصادي:
تتعاون الجامعة مع المدارس والمراكز، والمؤسسات الحكومية والخاصة، لتوفير فرص تدريب، ووظائف لخريجيها، وضمان الانتقال من التعليم إلى الإنتاج.
خامساً: البحث والمركز التخصصي:
إنشاء "مركز الترجمة والتواصل لذوي الإعاقة" في الجامعة يخدم المجتمع، المؤسسات، الإعلام، المطابع، والمؤتمرات، ليكون منصة وطنية/إقليمية.
سادساً: شراكات دولية:
اتفاقيات مع جامعات معروفة عالمياً في هذا المجال، للاستفادة من خبراتها، تبادل أعضاء هيئة تدريس، بحوث مشتركة، زمالات، تدريب ميداني.
سابعاً: تمويل مستدام:
صندوق وقفي، شراكات مع القطاع الخاص، منح دولية، برامج حكومية، مع نموذج أعمال تضامني.
رسالتنا وأثرنا
ستكون رسالتنا "تمكين الكلّ...تعليم لا يُستثنى فيه أحد، وبيئة جامعة حقيقية تجعل من ذوي الإعاقة نخبة قادرة على التعلُّم والإبداع والمشاركة".
وسنحدث آثاراً ملموسة: خريجون يتقنون لغة الإشارة والـ"برايل" والتقنيات، مدارس تُدار بكفاءات متخصصة، أبحاث تُطوّر حلولاً محليّة، ومجتمع ينظر إلى ذوي الإعاقة كمكوّن فاعل ومساهم وليس كمستقبِل دعم فقط.
إن المشروع الذي نطرحه اليوم ليس مجرّد فكرة جامعية، بل رؤية وطنية وإنسانية.
نريد أن نكتب التاريخ: جامعة عربية تصبح مرجعية دولية في تعليم ذوي الإعاقة وإعداد المعلمين والمترجمين والمتخصصين في التواصل، وتفتح أبوابها لكل طالب وطالبة من ذوي الاحتياجات، ومن يود أن يكون معلماً أو ميسِّراً في هذا المجال.
فلنبدأ المرحلة الأولى من التخطيط والتحضير، ولنجعل الكويت أو السعودية، أو قطر أو الإمارات، أو البحرين أو عُمان، والعالم العربي، في مقدّمة هذا المسار، ولنشهد مجتمعاً أكثر إدماجاً وانصافاً وإبداعاً.
أدعو كل الجهات المعنيّة: وزارة التعليم العالي، الجهات الحكومية المعنية بذوي الإعاقة، مؤسسات القطاع الخاص، ومنظمات المجتمع المدني، إلى التعاون والمشاركة، فالفكرة تحتاج إلى كل يدٍ وإرادةٍ حتى تتحول إلى واقع يُحتذى به.