قَصص إسلامية
يزخر التاريخ العربي بالكثير من قصص الفراسة والفطنة والذكاء، وهذه القصة من أشهر قصص الفراسة، وهي قصة أبناء نزار بن معد بن عدنان مع ملك نجران الأفعى الجرهمي.
نزار بن معد هو الجد الثامن عشر لرسول الله، ويرتقي نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام)، وابناءه أربعة من الذكور وهم مضر (الذي من نسله رسول الله) وإياد وربيعة وأنمار.
وقد حدثت لهم هذه القصة: لما حضرت أباهم الوفاة دعا أبناءه ليوصيهم، فدعا اياداً وعنده جارية شمطاء (التي خالط بياض رأسها سواده) وقال: هذه الجارية الشمطاء وما أشببها لك، ودعا أنماراً وهو في مجلس له، وقال: هذه البدرة والمجلس وما اشبههما لك، ودعا ربيعة وأعطاه حبالاً سودا من شعر وقال: هذه وما اشبهها لك.
وأعطى مضر قبة حمراء وقال: هذه وما اشبهها لك. ثم قال: وإن أشكل عليكم شيء، فأتوا الأفعى بن الأفعى الجرهمي (وكان ملك نجران في ذلك الوقت).
فلما مات نزار ركبوا رواحلهم قاصدين الأفعى تنفيذا لوصية والدهم، فلما كانوا من نجران على مسافة يوم، إذ هم بأثر بعير. فقال إياد: انه أعور (يرى بعين واحدة) فقال أنمار: وإنه لأبتر (مقطوع الذيل) فقال ربيعة: وإنه لأزْور (أعرج مائل الجسم)، وقال مضر: وإنه لشارد لا يستقر (هارب هائم على وجهه).
فلم يلبثوا حتى جاءهم راكب، فلما وصلهم قال: هل رأيتم بعيراً ضالاً، فوصفوه له كما تقدم (أعور، أبتر، أزور، شارد) فقال الراكب: إن هذه لصفته عينا، فأين بعيري؟
قالوا:مارأيناه. فقال:أنتم أصحاب بعيري، وما أخطأتم من نعته شيئا. فأكملوا طريقهم ليحتكموا الى رأي الملك. فلما أناخوا بباب الأفعى وأستأذنوه، وأذن لهم صاح الرجل بالباب، فدعا به الأفعى وقال له: ما تقول يا هذا؟
قال: أيها الملك، ذهب هؤلاء ببعيري، فسألهم الأفعى عن شأنه فأخبروه، فقال لإياد:ما يدريك انه أعور؟ قال: رأيته قد لحس الكلأ من شق، والشق الآخر وافر، وقال أنمار: رأيته يرمي بعره مجتمعا، ولو كان أهلب لمصع به، فعلمت انه أبتر (يخرج الروث متجمعا).
وقال ربيعة: أثرُ احدى يديه ثابت أما الآخر فاسد، فعلمت أنه أزور. وقال مضر: رأيته يرعى الشقة من الأرض ثم يتعداها فيمر بالكلأ الغض فلا ينهش منه شيئا، فعلمت انه شرود.
فقال الأفعى: صدقتم، وليسوا بأصحابك، فالتمس بعيرك يا رجل. ثم سألهم عن نسبهم فأخبروه، فرحب بهم وحيّاهم، ثم قصوا عليه قصة أبيهم، فقال لهم: كيف تحتاجون إليَّ وأنتم على ما أرى؟
قالوا: أمرنا بذلك أبونا، فأمر خادم دار ضيافته أن يحسن ضيافتهم ويكثر مثواهم، وأمر وصيفا له ان يلتزمهم، ويحفظ كلامهم فأتاهم القهرمان بشهد (عسل) فأكلوه، فقالوا: ما رأينا شهداً أطيب ولا أعذب منه، فقال إياد: صدقتم، لولا ان نحله في هامة جبّار.
ثم جاءهم بشاة مشوية، فأكلوها واستطابوها، فقال أنمار: صدقتم لولا انها غذيت بلبن كلبة.
ثم جاءهم بالشراب، فاستحسنوه، فقال ربيعة: لولا ان كرمته نبتت على قبر. ثم قالوا: ما رأينا منزلاً أكرم قِرى، ولا أخصب رَحْلاً من هذا الملك.
فقال مضر: صدقتم لولا انه لغير أبيه. فذهب الغلام الى الأفعى فأخبره بكل ما سمع مما دار بينهم، فدخل الأفعى على أمه فقال: أقسمت عليك إلا أن تخبريني من أبي؟ فقالت: أنت الأفعى ابن الملك الأكبر، قال: حقا لتصدقينني، فلما ألح عليها، قالت:أي بني، إن الأفعى كان شيخا قد أُثقل، فخشيت ان يخرج هذا الأمر عن أهل هذا البيت، وكان عندنا شاب من أبناء الملوك، اشتملت عليك منه. ثم بعث الى القهرمان فقال: أخبرني عن الشهد الذي قدمته إلى هؤلاء النفر ما خطبه؟ قال: طلبت من صاحب المزرعة أن يأتيني بأطيب عسل عنده، فدار جميع المناحل، فلم يجد أطيب من هذا العسل، الا أن النحل وضعه في جمجمة في كهف، فوجدته لم يُر مثله قط فقدمته لهم.
فقال: وما هذه الشاة؟ فقال: إني بعثت الى الراعي أن يأتيني باسمن شاة عنده، فبعث بها وسألته عنها فقال: انها أول ما ولدت من غنمي فماتت أمها، وأنِست بجراء الكلبة ترضع معهم، فلم أجد في غنمي مثلها، فبعثت بها. ثم بعث الى صاحب الشراب، وسأله عن شأن الخمر فقال: هي كرمة غرستها على قبر أبيك، فليس في بلاد العرب مثل شرابها.
فعجب الأفعى من القوم، ثم أحضرهم وسألهم عن وصية أبيهم، فقال إياد: جعل لي خادمة شمطاء وما اشبهها، فقال الأفعى: انه ترك غنما برشاء (عليها بعض بقع بيضاء تخالط لونها)، فهي لك ورعاؤها من الخدم. وقال أنمار: جعل إليّ بدرة ومجلسه، وما أشبهها، فقال: لك الدارهم والأرض. وقال ربيعة: جعل لي حبالا سودا وما اشبهها، فقال: ترك أبوك خيلا دهما (سوداء)، وسلاحا فهي لك، وما معها من موال (فقالت العرب بعد ذلك ربيعة الفرس).
وقال مضر: جعل لي قبة حمراء وما اشبهها، قال:ان أباك ترك ابلاً حمراء فهي لك (فقالت العرب بعد ذلك مضر الحمراء)، وأعطاهم ما لهم وأكرمهم، ثم رحلوا عنه.
إمام وخطيب
[email protected]