إنّ عودةً الى بعض المراجع الدينيّة، كالعهدِ القديمِ والقرآن، تُخبرنا عن نوح الذي أُنبِئَ بطوفانٍ، فبنى فُلْكاً، وحملَ فيها أهلَه، ومن كلِّ دوابِ الأرضِ وطيورِها زَوجَين، وهكذا، نجَتِ البشريّةُ من الانقراض، بعدَ أن هلكَ جميعُ الآخرين، ولم يُبقِ اللهُ للكافرين ديارا.
أمّا وقد أطلقَ "المُجاهِدون" على عمليّتِهم، في السّابع من أكتوبر، اسمَ "طوفان الأَقصى"، وسارَ، معهم، مَنْ سار، إسناداً لغزّة الجريح، فلم يكنْ هؤلاءِ وأولئك على قَدْرِ وَعيِ نوح، فلم يُحَضِّروا قارِبَ نجاةٍ واحداً، لأهلِهم الذين أبادَ طوفانُ النّار والبارود الكثيرين منهم، ولم يكنْ كلُّ هؤلاءِ من الكافِرين "ليأخذَهم الطّوفانُ وهم ظالِمون".
إنّ ما جرى، عندَنا، من تحويلِ الوطنِ قبراً مفتوحاً، تلحسُ القذائفُ من دمِه، ويضمِّدُ جراحَه بالجراح، سَبَّبَه مسؤولٌ طوفانيٌّ جعلَ لبنانَ، وأهلَه، مواسمَ أَلغام، وضَيَّعَ منهم جوازَ المرورِ الى السّلامِ، ليطمرَهم وَحلُ الأرض، وليغدوَ حلمُ كثيرينَ، منهم، خيمةً، مسحوقينَ ومذلولين تحت عنوان "نازحين".
ولمّا كانت غالبيّةُ الشّعبِ رافضةً زجَّ البلادِ في حربٍ جهنّميةٍ، عبثيّة، ارتدَّت على الوطنِ دماراً، وضحايا، وتهجيراً، وخسائرَ فادحةً في الحجرِ والبشرِ والاقتصاد، فقد آنَ الوقتُ لرَفعِ الصّوتِ الرّافضِ أن يصبحَ الوطنُ وَقفَ الشّيطان، وغزَّةً أخرى بعدَ غزّةَ التي سيسودُها سلامٌ ساهمَ في تحقيقه مبادراتٌ مشكورةٌ لدولٍ عربيّة وأجنبيّة، وفي طليعتها الأشقّاء في الخليج.
وحانَ الوقتُ، أيضاً، للوقوف في وجهِ استكمالِ الموتِ المتجوِّلِ، تفرضُهُ نزوةٌ أو شعاراتٌ خشبيّة مستورَدة تشطُّ عن حقيقةِ الوطن، خدمةً لمصلحةٍ خارجيّةٍ معروفة، ما يُنتِجُ استباحَةً لحياةِ النّاس بالمجّان، لِذا، فقد أصبحَ رفعُ الصّوتِ واجباً وطنياً مهما كانت ردّاتُ الفعلِ عليهِ فَجَّةً.
إنّ الوطنَ، اليوم، بعد أن أُرغِمَ على دفعِ فاتورة باهظة، بُنودُها سلامتُهُ، وأَمنُ مجتمعِهِ، ومصيرُه المُفَخَّخ... فهل حَقٌّ أن نقول: ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ؟
لقد جعلَ المتهوِّرونَ شيطانَ الموتِ يُنشِبُ حِرابَه المسمومةَ في قلبِ لبنان، لا سيّما جنوبه، ونَزَّفوا جسدَه، وتركوا الحربَ تحفرُ في كيانِهِ أثلاماً داميةً غَصَبَته فرحَه، وعلَّقوه على خشبةٍ من لَحمِهِ، أوليسَ من حقِّه، بعدَ ذلك، أن ينتفضَ ويرفض، وينادي بسَلامٍ مُنتَظَر؟
إنّ قلقَ الوطنِ لا يتَّصِلُ بالشّياطين الوهميّين، كما أنّ نقمتَه المُغتاظة، الآتيةَ من المَرارةِ، والألم، والموت، جعلَته أن يَلعَنَ بعضَ قاطِنيه عَلَناً، لأنّ هذا البعضَ قد أشاحَ عنه، وانصهرَ في بنيةٍ هجينةٍ أطاحَت بمكوّناتِ الكيان، وزجّت به في أتونِ حربٍ حوّلته ركاماً، وجعلَت أهلَه يتجوّلون في كفنٍ ينزفُ رماداً.
فالمصائبُ المتراكمة التي أصابَت البلاد، ليسَت من الغَيب، وتداعياتُها السّالبة والقاتلة لا يمكنُ أن يقبلَ لبنان أن يتملّص المجرمون من مسؤوليّتهم عنها، وكأنّها جاءَت من الغامض.
الوطنُ يسألُ عَمّا فعلَه قرارُ الإسنادِ، لغزّةَ المنكوبة، وللبنانَ المُدَمّى، فالعدوُّ لم يأبهْ لفِعلِ الإسناد، ولم ينشغلْ بهِ عن تدميرِ غزّة، وقتلِ أهلِها، كما توهَّمَ "المُمانعون"، ثمّ ارتدَّ الى الجنوبِ، وتالياً، الى كلٍّ مساحةِ البلاد، مخلِّفاً ما لم يشهدْه تاريخُ لبنانَ من قتلٍ، وخرابٍ، لا يكفيهما كلُّ دموعٍ العالَم...وهكذا، لم يجلبِ الإسنادُ، في الملموسِ المؤكَّد، إلّا حالةَ قَهرٍ، وذلٍ، وقتلٍ، ونزوح، وقساوة يأسٍ أين منها طَعناتُ السُمّ.
الوطنُ سقطَ في الهاوية، وهو منظرٌ أَشَدُّ قبحاً من الصَّدمة، يكشفُ عن مقهورينَ تأصَّلَت فيهم فكرةُ الظّلمِ بحمولتِها القاسيةِ، وتَفَسَّخَ أملُهم أمامَ متهوِّرين، لا مخطَّطَ لهم، أسرَتهم إيديولوجيّتُهم العقيمةُ، ويافطاتُهم المتشظِّيةُ التي أنتجَت، في ذواتِهم، ضُمورَ حسِّهم الوطنيّ، فانزلقوا في حيثيّةِ الانتحارِ المجّاني، ولم يُبعدوا ناسَهم عن شلّالِ الموت، ما حوَّلَ أملَ الواثقين بهم، من دائرةِ ضمانِ الحِماية، الى دائرةِ الإحباطِ والانهزام.
في خِضَمِّ مرحلةِ المصائبِ التي لها مسبِّبات وأبطالٌ معروفون، لن نقبلَ، بعدُ، أن يلجأَ المتهوِّرون الى غسلِ أيديهم من مسؤوليّتِهم التراجيديّة عمّا حصل، وما حصلَ فِعلٌ جرميٌّ أدخلَ البلادَ في نَفَقِ الموت، وأضحى الوطنُ المقهورُ أَطلالَ وطنٍ حَجَرِيِّ المَلمَح. عسى، بعد هذه المرحلةِ المُميتةِ التي أودَت بمستقبلِ لبنانَ أدراجَ الرّياح، ألّا نستيقظَ، ثانيةً، على بروباغاندا مُتَخَيَّلة، وعلى ارتدادِ رافِعي بِندَيرَةِ الحربِ، الى الدّاخلِ، ترسيخا لهيمنةٍ على السّلطةِ، والقرار، وإمعانا في نَشلِ الهويّةِ التي لُوِّثَت بصواعقِ الموت... عسى أن تستفيقَ الدّولة.
كاتب وأستاذ جامعي لبناني