أبعاد السطور
يشكّل الإنفاق الاستهلاكي في كل دولةٍ المؤشر الأصدق على نبض اقتصادها، فهو الذي يعكس ثقة الناس، ويغذّي عجلة الإنتاج والخدمات، ويمنح الأسواق طاقتها المستمرة على الدوران.
وعندما يتراجع، لا يكون ذلك مجرد رقم في جداول الإحصاء، بل علامة على قلقٍ يترسّب في نفوس الناس، وعلى خللٍ في آلية القرار الاقتصادي، وفي مناخ الثقة العامة.
لقد ارتفعت الأسعار، وتآكلت القوة الشرائية للمواطن والمقيم، وتحوّل الشعور بالراحة إلى حذرٍ دائم في الصرف. غير أن السبب الأعمق وراء هذا التراجع لا يكمن فقط في ارتفاع الأسعار أو الظروف العالمية، بل في غياب التخطيط العلمي السليم، قبل اتخاذ القرارات الاقتصادية.
كثير من القرارات التي تُتخذ بنوايا حسنة قد تؤدي إلى نتائج عكسية، حين تغيب عنها الدراسة المتأنية والرؤية الشاملة التي تسبق التنفيذ.
فحين يُتخذ القرار في غياب قراءة دقيقة للآثار الاجتماعية والمالية، تتراكم النتائج السلبية، ويصبح المواطن هو من يدفع الثمن في نهاية المطاف.
ما يحدث في الكويت ليس استثناءً في التاريخ الاقتصادي، فالعالم شهد أزماتٍ مشابهة كان سببها الأساسي التسرّع في القرار دون تخطيط علمي.
ففي عام 2008، مثلاً، انهارت الأسواق العالمية بسبب التوسع غير المدروس في توريق الديون العقارية في الولايات المتحدة، وهو قرارٌ مالي بدا في حينه ذكياً ومحفزاً للنمو، لكنه افتقد إلى التقييم الواقعي للمخاطر، فانتهى إلى أكبر أزمة مالية شهدها العالم الحديث.
وفي السبعينيات، واجهت بريطانيا ما سُمّي "أزمة الشتاء الغاضب" حين اتُخذت قرارات حكومية متفرقة في إدارة الأجور والضرائب، دون رؤية اقتصادية متكاملة، فانهار الإنتاج وتراجعت الثقة بالعملة.
وحتى في دولٍ نفطية غنية مثل فنزويلا، أدى سوء التخطيط وتضارب القرارات إلى انكماش الإنفاق الداخلي رغم وفرة الموارد.
هذه التجارب تثبت أن الخطأ لا يكون في نقص المال، بل في غياب المنهج العلمي الذي يصنع القرار الرشيد. والكويت بما تمتلكه من احتياطيات مالية وسيادية هائلة ليست فقيرة في الموارد، بل في فعالية القرار الذي يضمن توجيه هذه الموارد نحو التنمية الحقيقية. وحين يشعر المواطن أن القرارات الاقتصادية تُصاغ دون وضوحٍ أو دراسةٍ كافية، تضعف ثقته بالسوق، فيميل إلى الادخار لا الإنفاق، ويغلق دورة الاقتصاد في وجه نفسه.
تراجع الإنفاق لا يُقاس فقط بانخفاض المبيعات أو هدوء الأسواق، بل هو انعكاس لخللٍ أعمق في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، بين من يخطط ومن يعيش نتائج هذا التخطيط.
إن أي قرار اقتصادي يجب أن يمرّ أولاً عبر عقلٍ علمي يقرأ الاحتمالات كافة، لا عبر مزاجٍ لحظي، أو رد فعلٍ موقت، فحين يغيب العلم عن القرار، يصبح الاقتصاد في مهبّ التجربة، والمجتمع ساحة اختبارٍ مفتوحة.
الإنفاق الاستهلاكي يمكن أن يعود حين تعود الثقة، والثقة لا تُستعاد إلا بالقرارات المدروسة التي يشعر المواطن بثمارها في معيشته اليومية.
إن الحلّ يبدأ من إعادة الاعتبار للتخطيط العلمي، وتكريس ثقافة الدراسة والتحليل قبل الإجراء، لأن الاقتصاد كالكائن الحي، لا يحتمل التجريب، ولا يصمد أمام الارتجال.
وما تحتاجه الكويت اليوم ليس أموالاً جديدة، بل قراراً واعياً يسبق الفعل، ورؤيةً تتعلّم من تجارب الآخرين قبل أن تُعيد أخطاءهم.
كاتب كويتي