لكل واحد فينا أشياء غالية عليه، ما أقصد الذهب والألماس أو الفضة، أقصد أشياء تحبها أرواحنا. وأنا من الأشياء الغالية عليَّ وأحبها، وأحترمها هي بعض تلك الوجوه والأرواح التي تركت بصمة جميلة في ذاكرتي، من ذاك الوقت إلى هذا اليوم.
في منطقة الرقعي، فيه برج طويل، وضخم يشبه الفنادق، لونه أزرق، أصبح لاحقاً مقراً للهيئة العامة للقوى العاملة، وفي الدور الخامس تقع الشؤون القانونية، حيث كان هناك مكتبي، وكان مقابل باب مكتبي مكتب آخر، ومن ثم يأتي المكتب الثالث الواقع بين المكتبين، وهو محوّر هذه المقالة.
المكتب الثالث كان لمستشار قانوني حقيقي، لا مضروب ولا مُزوّر، ولا حايشه صبغ تجميلي، يعني مثل ما يقولون:
"ملو هدومه"، جنسيته مصرية، اسمه أحمد حسين، عمره في منتصف الأربعينيات. هذا المستشار كانت تضيق به العين من كِبر قدره، دائماً يرتدي بدلات أنيقة، واضح انه دافع عليهم كويس.
صاحبنا أحمد حسين لم يكن قانوني "مشي حالك" منح نفسه من نفسه مثل اللي بالّي بالك، مسمى مستشار بالمجان! لا حبيبي، بل كان يعمل رئيساً لإحدى المحاكم المصرية، ولا يزال.
ولقد استعانت الوزيرة السابقة السيدة المحترمة هند الصبيح به لكتابة بعض القوانين والتشريعات واللوائح الخاصة بوزارة التخطيط، ووزارة "الشؤون"، والهيئة العامة للقوى العاملة.
كان كل يوم يأتي إلى مكتبه باكراً، ذلك المكتب الذي حوله في أيام قليلة إلى ترسانة مملوءة بالمراجع والكتب، وكان عندما يدخل مكتبه أول شيء يخلع حذاءه ، بعدين "جاكيت" بذلته، وعن طريق الـ"لابتوب" يشغّل القارئ المنشاوي، ويخلّي صوت المنشاوي الروحاني يَصدح في أرجاء المكان، ثم يصنع لنفسه كوباً من الزنجبيل بالليمون سريع التحضير.
ولأن المستشار أحمد كان جاري في العمل، كنت أحب زيارته يومياً، وأحرص على ذلك، في مدة لا تقل عن 5 دقائق ولا تزيد على 10 دقائق، كي لا أَعطّله، لأن الرجل عنده ما يكفيه من كتابات، وردود، واستنباطات قانونية، ويحتاج فيها إلى كل دقيقة تمر عليه في المكتب.
في أحد الأيام، عندما كنت في مكتبي والباب مفتوح على الآخر، مرّني المستشار، وهو محتضن مجموعة من الكتب! فقمت نحوه بسرعة، وأخذت منه بعضها لمساعدته، كان عدد تلك الكتب 10 أو 12 كتاباً على الأرجح.
حينما دخلنا إلى مكتبه، على الفور بدأ هوايته، فخلع حذاءه و"جاكيت" بذلته، وشغّل غلاية الماء، ثم جلس على مقعده وأطلق تنهيدة طويلة، تشبه تلك المسافة التي يقطعها الدلو نحو قاع البير، ثم نظر إليّ وقال: "يا صاحبي، البلد دي محتاجة تِسخن، القانون في البلد نايم وبردان"!
فسألته بلهجته: "ليه يابو عبد الرحمن بتقول كده"؟
رد عليّ وقال: "القوانين في البلد شبه متعطلة، والنفوذ والواسطة والإجرام واختراق القانون هما اللي وصلوا البلد الطيب ده لمرحلة يطاول فيها على القانون كل من هب ودب، من مواطنين ووافدين"!
ثم عاد وكرر كلمته: "البلد ديه محتاجة تسخن"!
كلمة المستشار هذه جعلتني في حالة شبيهة في تلك الحالة التي يقول فيها الممرض للمريض: "خذ نَفس". ثم يغرس رأس الحقنة داخل العضل!
قبل أن يغادر المستشار أحمد حسين إلى مصر دخلتُ عليه المكتب ورأيته قد أحضر العديد من الكراتين الفارغة وبعض العمال، حيث كان يتهيأ لحزم أمتعته وكتبه، وبقية أغراضه للسفر، كان كالصقر الذي لا يعرف أن يعيش سوى في عاليات الأماكن.
تذكرت زميلي المستشار الحقيقي أحمد حسين أبو عبد الرحمن في هذه الأيام الرائعة التي البلد سِخَنَت فيها بالفعل ضد كل برود وجمود وتراخٍ في هيبة الدولة، وسيادة القانون، والتطاول على حقوق الدولة والآخرين.
نعم، البلد سِخنت يا معالي المستشار أحمد حسين، ووزارة الداخلية تحقق اليوم إنجازات غير مسبوقة، تعكس حرص الدولة على سيادة القانون وحماية المواطنين والمقيمين.
نجحت الوزارة في خفض معدلات الجرائم الجنائية والمخدرات، مع تعزيز الشعور بالأمان وتطبيق القانون بحزم.
وأدخلت تعديلات مهمة على قوانين المرور والإقامة والمخدرات، مستفيدة من التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي لرصد المخالفات، كما أتاحت منصة "سهل" أكثر من 37 خدمة إلكترونية لتسهيل معاملات الجمهور.
وتم إنشاء قاعدة بيانات تضم أكثر من 16 مليون بصمة مدنية، واعتمدت زوارق بحرية ذكية لحماية السواحل ومكافحة التهريب، مع تدريب الكوادر الأمنية بأحدث التقنيات لضمان مواجهة التحديات الجديدة.
كما أطلقت الوزارة حملات أمنية واسعة، أسفرت عن ضبط سحرة ومشعوذين، وأطباء مزورين، ومخالفي قانون يديرون مطاعم تقدم غذاءً فاسداً، ومشروبات كحولية، إضافة إلى القبض على عصابات تهريب الديزل، ولصوص السيارات والشاحنات.
البلد سخنت، والقانون ساد، وحقوق المواطنين والمقيمين صارت محمية أكثر من أي وقت مضى، بفضل الله ثم جهود كل الأرواح المخلصة في جميع مواقع هذا الوطن، وبخاصة رجال وزارة الداخلية الأبطال.
كاتب كويتي