الأربعاء 26 نوفمبر 2025
23°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
حقوق الإنسان... النمو والتنمية
play icon
كل الآراء

حقوق الإنسان... النمو والتنمية

Time
الثلاثاء 25 نوفمبر 2025
د.بدر عثمان مال الله

لا ينبغي التفكير أن حقوق الإنسان هو موضوع حقوقي صرف يتصل بالقانون فقط، أو مسألة سياسية تتصل بالأوضاع والترتيبات السياسية للحريات، فهو، بالإضافة لذلك، يتصل اتصالا وثيقا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل وأصبحت اليوم، في أدبيات التنمية المعاصرة، محورا أساسيا لبناء اقتصاد قوي وتنمية مستدامة، إذ تتيح الفضاء المطلوب لإطلاق القوة الإنسانية الكامنة نحو البناء والتعمير والإبداع.

أي إطلاق أهم عامل من عوامل الإنتاج، الإنسان، للمساهمة الفعالة في استثمار جميع عوامل الإنتاج الأخرى في النمو الاقتصادي، كما ترتبط، حقوق الإنسان، بشكل عملي في تحسين جودة الحياة ورفع قدرة الدولة على تحقيق نمو حقيقي طويل المدى، وزيادة قدرة المجتمع على الوحدة والتماسك، وهو ما تهدف إليه التنمية، مما يجعل الاثنان صنوان لا يفترقان.

وبعيداً عن الخوض في بحرها الحقوقي الشاسع ومحيطها السياسي المتلاطم، فإن المفهوم الأساسي لحقوق الإنسان تنموي لأنه يعنى بالرفاه الإنساني باعتباره الهدف الأساسي، وهو ما تركز عليه النظريات الاقتصادية الحديثة وتهدف إليه التنمية.

وتعتبر حقوق الإنسان، في أدبيات التنمية، القاعدة والمنطلق، ويصعب تحقيق تنمية شاملة إلا بشراكة مجتمعية شاملة على قاعدة تلك الحقوق، وهذا، بالطبع، مبدأ أساسي من مبادئ حقوق الإنسان يحتم مشاركة الجميع في جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إن قراءة متعمقة لأهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أقرتها الأمم المتحدة، وأكد عليها المجتمع الدولي، وتبنتها دوله، تتصل إتصالا وثيقا بمبادئ الأعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقره المجتمع الدولي عام 1948، وأصبح ضمن الشرعة الدولية المتفق عليها، وأهداف التنمية المستدامة ما هي إلا صيغة تنفيذية تنموية تجسد المبادئ الحقوقية التي نص عليها ذلك الإعلان العالمي.

وعلى سبيل المثال، فإن "حق المعيشة اللائق" في الإعلان العالمي عبر عنه الهدفان الأول والثاني "لا فقر" "لا جوع" من أهداف التنمية المستدامة، و"حق الصحة الجيدة" عبر عنه الهدف الثالث، و"حق التعليم الجيد" عبر عنه الهدف الرابع، و "حق العمل" عبر عنه الهدف الثامن. وذلك إلى الحد الذي يمكن ربط كل هدف من أهداف التنمية المستدامة بأصل حقوقي تضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى نحو يبين أن الأمم المتحدة حين تبنت أهداف التنمية المستدامة، كانت قد ترجمت إعلان حقوق الإنسان ضمن أجندة تنفيذية تنموية دولية.

وإذ بدأ الإعلان العالمي بجملة رائعة "ولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الحقوق والواجبات"، بدأت أهداف التنمية المستدامة بجملة لا تقل روعة "لا نترك أحدا خلفنا".

وإذا نظرنا إلى واقع وقضايا التنمية الاقتصادية، سنتبين العلاقة الوثيقة بين حقوق الإنسان والتنمية، وهي ليست علاقة نظرية بقدر ما هي واقع عملي.

وفي هذا الإطار، فإن حقوق الإنسان ليست فقط قيما أخلاقية، لكنها شرط أساسي، وركن مكين لتحقيق التنمية الحقيقية. فالتعليم الجيد والصحة الجيدة ومكافحة الفقر هي حقوق إنسانية أساسية، وتسهم في تكوين رأس المال البشري، وتعزز مساهمته في النشاط والإنتاج الاقتصادي، وحقوق المرأة في التعليم والعمل والمساواة توسع نطاق رأس المال البشري وتحقق دخلا قوميا أعلى ونموا إقتصاديا أسرع، وسيادة القانون، والحوكمة الرشيدة ترفع التصنيف الائتماني وتحفز الاستثمار وتجذب المستثمر الأجنبي، وتطول القائمة في علاقة هاتين المسألتين.

من جانب آخر، تتداخل نظريات حقوق الإنسان كذلك مع النظريات الاقتصادية، وإذ تركز الأولى على المبادئ الحقوقية كالعدالة والمساواة والاحتياجات الأساسية، تركز الثانية على الانتاج والنمو وتوزيع الموارد وتحسين الكفاءة.

وتلتقي الاثنتان على هدف واحد هو رفاه الإنسان والمجتمع. والحق في التعليم والصحة والعمل والمسكن والاجر العادل هي في حقيقة الأمر متغيرات اقتصادية تتصل بالإنتاج والإنفاق العام والسياسات العامة، والسياسات المالية.

إن النظريات الاقتصادية الحديثة، شأنها شأن نظريات حقوق الإنسان، تركز على "الإنسان" باعتباره العامل الأساس في البناء والاعمار والتنمية. وحقوقه تقدم وتحدد الغايات، بينما الاقتصاد يقدم ويحدد الأدوات والوسائل، فلا تعليم وصحة دون موارد مالية، وعندما يعملان معا يمكن تحقيق التنمية الإنسانية الشاملة.

كثيرا ما نعبر عن اعجابنا بالنهضة التي حققتها اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية، وبالتمعن المنهجي الدقيق لمسارات النهضة في هذه الدول، كأمثلة حية، نرى أن التنمية الاقتصادية فيها لم ترتكز على الموارد، فهي شحيحة الموارد، بل ارتكزت على بناء الإنسان، وتأصيل ومأسسة حقوقه، ورفع جودة حياته، وتمكينه في الإنتاج، وإطلاق قدراته الإبداعية.

ومثلما أن للانسان حقوق سطرها الإعلان الدولي، فإن النمو والتنمية والنهوض هي من حقوقه كذلك، وقد أدى التركيز على حقوق الإنسان دوراً محورياً في نهضة اليابان بعد دمارها في الحرب العالمية الثانية، واعتمدت سنغافورة حقوق الإنسان وربطتها بالتنمية البشرية والاحتياجات الأساسية، والحوكمة والنمو الاقتصادي، وحققت كوريا الجنوبية تقدما اقتصاديا كبيرا بعد دمقرطتها، وتكريس حقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة، وعلى منوال ذلك سار باقي النمور.

إن العلاقة بين حقوق الإنسان والتنمية، فكرا وممارسة، هي بالتأكيد علاقة تكاملية، لا ينفصل طرف فيها عن الآخر، وإذا انفصلت حقوق الإنسان عنها سارت التنمية عرجاء برجل واحدة.

المدير العام السابق للمعهد العربي للتخطيط

آخر الأخبار