"أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي"، بهذه الآية الكريمة أمرنا الله عز وجل، فكانت المساجد بيوتاً للذكر، وقلوباً نابضة في جسد الأمة.
لكننا اليوم نشهد مشهداً مؤلماً: مساجد فخمة شاهقة، مكيفة، مفروشة بالسجاد الفاخر، مزخرفة بالآيات والزينة، ثم ننظر داخلها فنجد الصفوف خالية إلا من القليل، وأحياناً لا يتجاوز المصلون أصابع اليد الواحدة، حتى في صلاة الجمعة التي كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا تسع المسجد الفقير الصغير أهله.
لماذا تخلوا مساجدنا من المصلين؟
أولاً: ابتعاد القلوب عن الله، فالمشكلة ليست في المساجد، بل في القلوب. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إذا أراد الله بقوم عذاباً أصابهم بالغفلة". والغفلة اليوم ليست مجرد نسيان، بل هي انشغال متعمد بكل شيء إلا الله. الهاتف أصبح قبلتنا، والـ"سوشيال ميديا" محرابنا، والمشاهير أئمتنا. نتابع حياة الآخرين ساعات، ولا نستطيع أن نترك دقائق لنقف بين يدي رب العالمين.
ثانياً: ضعف التربية الإيمانية في البيوت، فالكثير منها اليوم لا يُسمع فيها الأذان، ولا يُصلى فيها الوالد أمام أبنائه، ولا يُذكر الله إلا نادراً.
الأب يستيقظ متأخراً، يهرع إلى عمله، والأم منهمكة في شاشة هاتفها، والأبناء يغرقون في الألعاب الإلكترونية. فكيف ينشأ الطفل على حب المسجد إذا لم يرَ والده يقبل قدميه ليوقظه للفجر؟
ثالثاً: المساجد أصبحت مكاناً للمناسبات لا للعبادة اليومية. نذهب إلى المسجد في رمضان، وفي العيدين، وفي الجنائز، وفي صلاة الاستسقاء إذا انقطعت الأمطار.
أما الصلوات الخمس اليومية فأصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهل كثير من الناس. يقول أحدهم: "أنا أصلي في البيت أو في المكتب"، وكأن الصلاة في البيت تعدل الصلاة في المسجد، مع أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة".
رابعاً: فقدان الدور الاجتماعي والتربوي للمسجد، إذ كان في عهد النبي مدرسة وحضانة، ومجلس شورى، ومستشفى، ومأوى للمساكين.
أما اليوم فأصبح مجرد مكان للصلاة فقط. لا حلقات علم يومية، ولا دروس منتظمة بعد الصلوات، ولا أنشطة شبابية، ولا برامج للأطفال، فابتعد الناس لأن المسجد لم يعد يقدم لهم شيئاً سوى خمس ركعات سريعة ثم "انفضوا".
خامساً: الإمام والخطيب، هل لا يزال قدوة؟
بعض الأئمة (وليس الكل بحمد الله) يطيلون الخطبة حتى يمل الناس، أو يملأونها بمواضيع سياسية، أو تخويف لا ينفع، أو يقرأون القرآن بسرعة لا يُفهم منها شيء. فكيف يُحب الناس المسجد إذا كان من يقف على منبره لا يجذب قلوبهم؟
ماذا نفعل؟
- على الآباء أن يعودوا بأبنائهم إلى المسجد منذ الصغر، حتى يتربوا على حب ريح المسجد وصوت الأذان.
- على الأئمة أن يقصروا الخطبة، ويحسنوا القراءة، ويختاروا المواضيع التي تمس حياة الناس.
- على الدولة و"الأوقاف" أن تعيد للمسجد دوره التربوي والاجتماعي، فتفتح حلقات تحفيظ، ودروس فقه، وأنشطة رياضية وثقافية.
- على كل واحد منا أن يبدأ بنفسه: اجعل المسجد وجهتك اليومية، خذ معك ابنك، جارك، صديقك. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم": "من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح".
إن المساجد لن تمتلئ إلا إذا امتلأت قلوبنا أولاً بحب الله، فإذا أحببنا الله هرعنا إلى بيته، وإذا أحببنا بيته أحببنا أن نكون فيه دائماً.
فيا أيها المسلمون عودوا إلى مساجدكم قبل أن تُغلق أبوابها، وقبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الرجوع.
"سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ".
كاتب صحافي
[email protected]