هذه توطئة لسلسلة من قصص العقلاء، الذين ندموا على أمور لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروه لما وقعوا فيها.
قضى الله تعالى أن الانسان يعيش في جماعة تحوطه وتعينه، كما قيل: "الإنسان مدني بطبعه"، ومن وجوه الإعانة الإخبار بما عند كبيرهم من التجارب للصغير، فلا يؤتى من غرة، أو مكيدة، أو معضلة، إن أعلم عن سيرة من جربها، ومرت عليه في حياته، ولما كان الشيطان (الذي عنده من الغش والكيد والحسد والفساد ما عنده) للإنسان عدواً مبيناً، تتوالى غاراته عليه، وتختلف كتائبه إليه.
كان القرآن أحسن القصص للإنسان، فمن تأملها وعمل بها وقي من شر الشيطان، وما يكنه الحدثان، وبقي عليه السلامة من كدر الحياة، ومن ضيم بني الزمان، الذي لا يهتدي إليه الرجل إلا بعد تجربة وحنكة، حتى إنك لتجد الحذاق، من أرباب الصناعة والحرف، لم يصلوا إلى هذه الغاية، وذلك السبق البعيد وهذا الاتقان العجيب، إلا بعدما كانوا للأساتذة كالحلس للنوق، أو كالدلو للعين، لا ينفكون عنهم طرفة عين.
وقس عليهم أرباب الحكمة والعلم والشعر والأدب، واللغة والذوق وغيرها، وسبب اختيار ندم العقلاء لحلمهم، وتقديرهم للامور وحسن نظرهم، إذ السفيه لا يندم إلا على طيش، أو لهو، أو سخف، وربما صادف ندمه حقاً، وانتشرت تجربته حظاً، والتجربة في كلام العرب هي المعرفة، فجربت الأمور بإزاء عرفت الأمور؛ قال الشاعر:
"وحسبك بالمجرب من عليم"، وهي الخبرة أيضاً؛ قال تعالى: "ولا ينبئك مثل خبير"، أما الندم فهو التوبة من الشيء، وهو حديث عن أفصح العرب نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم).
وللندم علامات منها التوجع، والتحسر الباديان في الوجه، أو الشكوى باللسان، أو الإشارة في اليدين؛ كمن يقلب كفيه، أو يقرع سنه نادماً، أو حتى الكتابة، ونكت العصا على الأرض، وحتى التصرف في السلوك بتغييره، أو تعديله.
ومما قاله بعض الظرفاء: أن التجربة مشط، وأن المجرب حصل عليه بعدما سقط شعره، وبات أصلع، فلم يحتج إليه، وأصبح ينظر ويتحرى من الذي يهديه إليه.
ومما تقوله العرب: سقط في يده؛ أي ندم، وتقول: أندم من عاق، لأنه يندم بعد فوات بره لوالديه، وتقول: أندم من الكسعي ونذكر معناه في المقال القادم بإذن الله.
كاتب كويتي