الخميس 18 ديسمبر 2025
12°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
بيئة الأعمال... في عالمٍ مُتغير
play icon
كل الآراء

بيئة الأعمال... في عالمٍ مُتغير

Time
الثلاثاء 16 ديسمبر 2025
د.بدر عثمان مال الله

في مَثَلٍ قديم، يقول الفايكنغ "كلما تغير العالم، يجب أن نتغير معه، وللأفضل"، وهكذا وُلِدت إسكندنافيا الحديثة، وكلما تغير العالم يجب أن تتغير الأعمال وبيئتها، وبالطبع للأفضل، فبيئة الأعمال هي حاضنة الاستثمار، وأحد المحركات المهمة للنمو الاقتصادي، و كلما صَلُحت هذه البيئة وتطورت مكوناتها وأستحوذت على الاعتبار المستحق في سياسات النمو والتنمية، كلما أصبح الاقتصاد اكثر عافية وأفضل جذبا وأعلى تنافسية، والعكس بالعكس.

وبيئة الأعمال، بتعريف جامع، هي مجموعة القوانين والنظم والإجراءات المنظمة للاستثمار والقطاع الخاص، بالإضافة إلى العوامل البنيوية والخارجية التي تؤثر بها، وهي تشكل مجتمعة الإطار والقواعد الحاكمة والبُنى المنظمة، سلبا أو إيجابا.

إن دوراً فعالاً للقطاع الخاص لا يتأتى إلا على قاعدة من بيئة أعمال ومناخ استثمار يدفع هذا الدور ويعزز مساهمته. ولا شك، أن بيئة الأعمال الحاضنة لاقتصادنا الوطني تتوافر فيها مقومات مهمة تجعل منها بيئة واعدة، إذا جرى تحسينها وتطويرها.

إذ ترتكز هذه البيئة الواعدة على مقومات عدة، على رأسها؛ اقتصاد يعتمد على مصدر قوي هو النفط، وجهود حكومية متواصلة لتحسين مناخ الاستثمار، وخطط إصلاح اقتصادي وتنويع مصادر الدخل، وقطاع خاص نشط في قطاعات وأنشطة حيوية، وفرص استثمارية كبيرة في القطاعات غير النفطية، وبيئة تنظيمية وقانونية مستقرة.

وتلك جميعا مقومات مهمة لبيئة أعمال واعدة لتمتين اقتصادنا الوطني، وتمكين دور فعال للقطاع الخاص،لكن الأمر يتطلب مزيداً من الإصلاح والتطوير، والإضافة لتحقق بيئة الأعمال هذه دورها الواعد في النمو، والتنمية الإقتصادية والإجتماعية، فالتنمية تعتمد على النمو، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا ببيئة الأعمال.

وعلى رأس القائمة، يأتي التحدي الرئيسي، والذي ترتبط فيه العديد من تفاصيل تطوير بيئة الأعمال، و هو"الإدارة العامة" المتضخمة، والمكلفة والمزدحمة بالروتين، وبطء الإجراءات والبيروقراطية والبطالة المقنعة، وعلى نحو يجعلها، بكل الأحوال، عائقا للتنمية بدل أن تكون أحد محركاتها المهمة.

إن عجلة التنمية ستبقى تدور ببطء طالما بقيت أوضاع الإدارة العامة على حالها، وبقيت مُشغلاً رئيسياً للعمالة الوطنية. إن تحسين بيئة الأعمال رهن بإصلاح هذه الإدارة وحوكمتها، للوصول إلى الحجم الأنسب، وعلى قاعدة من الإصلاح الإقتصادي الذي يحول عبء تشغيل العمالة الوطنية إلى فرص عمل في القطاع الخاص.

أما التفاصيل الأخرى التي تتصل بذلك، بشكل مباشر وغير مباشر، من بعض ما تشمل؛ طول وبطء إجراءات التراخيص، وبطء التحول الرقمي، وضيق القاعدة الاقتصادية، واعتماد القطاع الخاص على الإنفاق الحكومي، والبيروقراطية الجمركية، وبطء إجراءاتها، وطول الدورة المستندية للمشاريع.

إن معالجة جذرية وسريعة لتلك جميعاً من شأنها أن تحول بيئة الأعمال الواعدة إلى بيئة خصبة جاذبة للإستثمار المحلي والأجنبي، وللتنويع الإقتصادي، ومحفزة للنمو الاقتصادي، وتلك ستكون مدخلاً مهما لتسهيل الخروج من دائرة الاعتماد الكبير على الإيرادات النفطية، والوصول إلى اقتصاد أرحب، وأكثر منعة ومتانة.

إن بيئة أعمال، متطورة ومحوكمة، إذا ما تكاملت مع موارد بشرية مؤهلة ستكون كفيلة بجذب عوامل الإنتاج والاستثمار وتعزيز النمو الاقتصادي، ولنأخذ سنغافورة على سبيل المثال، دولة مدينة، شحيحة الموارد، موزاييك سكاني مُركب، تم طردها من الاتحاد الفيدرالي الماليزي عام1965 بسبب حالة الفقر التي كانت تعيشها. لم يكن الأمر، بالنسبة لها، يتطلب إطلاق صواريخ للفضاء، أو اختراع "جيمس ويب"، أو إعادة بناء أبراج بابل، كانت المهمة سهلة وممكنة إذا توافرت السياسات والقرارات والحزم في التنفيذ والتصحيح.

هذا ما فعلته سنغافورة، فركزت خططها على ثلاثة محاور؛ بيئة أعمال متطورة ومحوكمة وجاذبة، تعليم جيد وموارد بشرية مؤهلة، وقطاع خدمات عصري، وفي كل ذلك، الحزم في التنفيذ، ونجحت في الثلاثة، والنتيجة يعرفها الجميع،أصبح لسنغافورة، بملايينها الستة من البشر، اقتصاد قوي له مكانته عالمياً، ويقدم للعالم أفضل الممارسات في إدارة الاقتصاد.

إن بيئة أعمال غير مواتية وغير محوكمة تعتبر مسألة جادة ومعيقة للنمو الاقتصادي وغير جاذبة للاستثمار، ويتعين إصلاحها وتطويرها برؤية نافذة وبسرعة وحزم.

فبيئة الأعمال، علاوة على كونها المحرك الرئيسي للنمو، وعامل مهم للتصنيف الائتماني، فهي أيضا الأرضية التي ينمو ويتطور عليها القطاع الخاص، والنظام المصرفي، والابتكار، وخلق فرص العمل،وكلما تطورت البيئة كلما كان الاقتصاد أوسع قاعدة، وأكثر قدرة على تحقيق الرفاه المطلوب.

إن جودة بيئة الأعمال لا ترتبط فقط بجودة البنية الفوقية؛ تشريعات ونظم ولوائح وإجراءات، بل كذلك بالبنية التحتية، وحسن إدارتها وصيانتها؛ طرق ومطارات وموانئ وكهرباء.

فهذه من أهم مكونات بيئة الأعمال والركن الأساسي الذي ينبني عليه النشاط الاقتصادي، كما ترتبط كذلك بمرونة الثقافة العامة، وقدرتها على التكيف مع الحداثة والتطور التكنولوجي، وأساليب الإدارة الحديثة.

الخلاصة، يأتي التعليم باعتباره أهم مكون في بيئة الأعمال، فدون تعليم حداثي عالي الجودة يصعُب تشييد بيئة أعمال عالية المستوى حتى، وإن توافرت العناصر المذكورة أعلاه، وبالإشارة إلى سنغافورة أعلاه، فإن سر نجاح بيئة الأعمال فيها كان التعليم، وكانت الأولويات الثلاث التي حددها، لي كوان يو، مؤسس سنغافورة الحديثة؛ "التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم".

المدير العام السابق لمعهد التخطيط العربي

آخر الأخبار