شهدت الآونة الأخيرة تصاعداً مقلقاً في ظاهرة الشكاوى الكيدية، التي تقدمها بعض الأمهات المطلّقات، لا سيما الحاضنات، ضد آباء أبنائهن، في سياق نزاعات أسرية تتعلق غالباً بتنفيذ أحكام الرؤية.
وتُعد أخطر هذه الشكاوى تلك التي تتضمن اتهام الأب بالتحرش الجنسي بأبنائه، لما تحمله من آثار نفسية واجتماعية، وجسيمة لا تمس الأب وحده، بل تمتد لتصيب الطفل والأسرة، والمجتمع ككل.
خطورة هذه الاتهامات لا تكمن فقط في مساسها بسمعة الأب، وكيانه الاجتماعي والمهني، بل في الأذى العميق الذي تُلحقه بالمحضون ذاته، فالطفل حتى في حال حفظ الشكوى، أو صدور حكم نهائي ببراءة الأب، يظل حاملاً لوصمة نفسية واجتماعية قد تلازمه سنوات طويلة، وتؤثر سلباً في ثقته بنفسه، وتكوينه النفسي، وعلاقاته المستقبلية، إذ يتحول إلى ضحية صامتة لقضية شائكة، لم يكن له فيها خيار أو ذنب.
وتشير الوقائع العملية إلى أن نسبة كبيرة من هذه البلاغات لا تُقدّم بدافع حماية الطفل، إنما بدوافع شخصية، وانتقامية، أو كوسيلة ضغط لحرمان الأب من ممارسة حقوقه القانونية في رؤية أبنائه، أو لتشويه سمعته، وإلحاق الضرر بحياته الاجتماعية والمهنية.
ويُعد استغلال قوانين الحماية من العنف الأسري والطفل، في هذا السياق انحرافاً خطيراً عن الغاية التي شُرعت من أجلها.
من هنا تبرز الحاجة الماسة إلى تدخل قانوني وتشريعي حازم، يضع عقوبات رادعة لكل من يثبت تقديمه شكوى كيدية، مع التأكيد في الوقت ذاته على ضرورة التحقيق الدقيق والمتوازن في كل بلاغ، للتفريق بين الشكاوى الجدية التي تهدف فعلاً إلى حماية الطفل، وتلك التي تُستخدم كسلاح للكيد والانتقام.
فالحكم القضائي النهائي بالإدانة هو الفيصل الحقيقي في إثبات العنف الأسري، وليس مجرد تسجيل البلاغ، أو فتح التحقيق.
كما يتعين على الجهات المختصة، وفي مقدمتها النيابة العامة والقضاء، التعامل بحذر مع هذا النوع من القضايا، والنظر في دوافعها وسياقها الأسري، بحيث لا يُسمح بتحويل الطفل إلى أداة ضغط، أو ورقة تفاوض في نزاعات الكبار، فالغاية الأساسية يجب أن تظل حماية الطفل نفسياً واجتماعياً، وضمان حقه في علاقة متوازنة وسليمة مع والديه.
ويثير القلق ما لوحظ من دور بعض مكاتب المحاماة التي تستغل غياب النصوص العقابية الصريحة، المتعلقة بكيدية البلاغات، فتشجع على التوسع في تقديم الشكاوى، تحت شعارات ظاهرها حماية الطفل، وباطنها إطالة أمد النزاع، وتحقيق مكاسب مالية، دون اعتبار للأضرار النفسية والجسيمة التي تلحق بالأطفال، أو بالأب المشكو في حقه.
لذلك، يصبح من الضروري إقرار نصوص قانونية واضحة تُلزم بمعاقبة الشاكي، أو الشاكية، في حال انتهت التحقيقات إلى حفظ الشكوى، أو ثبوت عدم جديتها، مع عدم الإخلال بحق المشكو في حقه في المطالبة بالتعويض عن الأضرار، المادية والمعنوية، التي لحقت به.
فوجود عقوبة رادعة من شأنه الحد من التسرع في تقديم البلاغات الكاذبة، وحماية كيان الأسرة من العبث القانوني.
وانطلاقًا من خطورة هذه الظاهرة، فإن الأمر يستوجب تعديل كل من قانون الحماية من العنف الأسري رقم 16 لسنة 2020، وقانون حقوق الطفل رقم 21 لسنة 2015، بإضافة نصوص صريحة تعالج كيدية البلاغات، خصوصا في ظل خلو القوانين الحالية من عقوبات محددة، الأمر الذي فتح الباب لإساءة استخدامها وتحويلها – دون قصد – إلى أدوات للإضرار بالآباء والأطفال على حد سواء.
خلاصة القول: إن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب تضافر جهود المشرّع والقضاء والجهات التنفيذية، لضمان أن تظل قوانين حماية الطفل والأسرة أدوات للعدالة والرعاية، لا وسائل للكيد وتصفية الحسابات الشخصية، حفاظاً على استقرار الأسرة وصحة الأطفال النفسية، ومستقبلهم الاجتماعي.
BSALghanem@