نعود مرة أخرى إلى مسألة تعزيز الناتج المحلي، وتنويع مصادر الدخل، ففي هذا المجال لا يعيب الحكومة أن تتعلم من الدول الأخرى، لا سيما المشابهة للكويت في الطبيعة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وكذلك التعلم من دول أخرى كانت تشبه اقتصادنا، لكنها عملت على تحقيق عناصر التفوق على اقتصادات قوية وراسخة في ذلك لم تجترح المعجزات.
لهذا، حين نقول إن هناك طرقاً كثيرة لخدمة رفع الناتج الوطني، فلا نكشف سراً، إنما على المعنيين أن يدركوا أن الحلول الارتجالية تؤدي إلى نتائج سلبية على الدولة ككل، وتبقى آثارها لأجيال عدة، فيما الفائدة السريعة المتوقعة منها أشبه بمسكن لمرض عضال.
الكثير من الدول مرت بأزمات عدة، ومنها من اختارت جعل المشكلة فرصة للنجاح، ومنها من سارت في الطريق المعتادة ما جعلها تقع تحت عجز كبير.
الأولى لم تضيق على الناس، ولا كبلت المصانع والمزارع والمرافق الخدماتية، كالمطاعم ومحال الترفيه، وغيرها، بقيود كثيرة كما يجري اليوم عندنا، بل عملت على وضع لوائح ذكية فيها الكثير من المحفزات، ما جعل المستثمرين يقبلون عليها والعمل في شتى القطاعات.
في الكويت ثمة فرص متعددة، إذا استغلت بالشكل الصحيح، يمكنها رفع الناتج الوطني، وتوسيع القاعدة الاقتصادية، بما يخدم الأجيال الحالية والقادمة، وكذلك أن تصبح منافساً إقليمياً، لأن فيها الكثير من الثروات غير المستغلة بطريقة صحيحة.
على سبيل المثال، صندوق "التأمينات الاجتماعية"، ولقد أفردنا افتتاحية كاملة خلال الأسبوع المنصرم عنه، ونعيد التذكير بأن أصوله تصل إلى 45 مليار دينار، يمكن استغلالها في بناء مدن سكنية، والمساهمة في البنية التحتية، وأيضاً المشاركة في مشاريع تنموية منتجة، بدلاً من الاستثمار عالي المخاطر، كما جرى في الوديعة التي خسرتها المؤسسة في الأزمة المالية اللبنانية.
أضف إلى ذلك، إن الدعم يكلف المالية العامة ما يزيد على سبعة مليارات دينار سنوياً، فيما ترشيده، أو رفعه كلياً، ومنح أصحاب الدخل المحدود دعماً ذكياً، يكلف الدولة نحو مليار دينار، بينما الستة مليارات الأخرى يمكنها أن تذهب إلى مشاريع تنمية، وكذلك توفر العجز السنوي المتراكم.
كذلك الصندوق السيادي، فقد أصبح اليوم لديه ما يزيد على تريليون و200 مليار دولار، بينما، وكما يبدو عالمياً، أن هناك كثيراً من المخاطر في هذه الاستثمارات، لذا أليس من الأفضل توظيف ثلث هذه الأموال في مشاريع محلية، والاستعانة بعقول اقتصادية تعرف كيف تدير هذه المشاريع، حتى لو كانت من الخارج؟
أيضاً من الثروات المهدرة، الحجوزات المتراكمة من "سوق المناخ"، وهي في المناسبة تسجل سنوياً في الموازنة على أنها ديون غير قابلة للتحصيل، ورغم ذلك هناك جهاز يديرها، ويكلف الدولة سنوياً ملايين الدنانير، فيما الكثير من أصحابها توفاهم الله، وأصبحت عقاراتهم متهالكة، والأراضي غير مستغلة، لذا يمكن للدولة تسييلها، وبيعها، ما يساعد على تأمين سيولة مالية كبيرة، والمعروف أنها تبلغ سبعة مليارات دينار.
إن التفكير الستراتيجي للدولة، أي دولة، لا يقوم على الفوائد السريعة، إنما على الاستمرارية والتطور، والمزيد من الثروة، لهذا فإن جميع حكومات العالم بدأت البحث عن الفرص بعد وقف الحرب الروسية - الأوكرانية، وتسويات الشرق الأوسط، ومنها دول الخليج، التي عملت على وضع ستراتيجية مستقبلية كي تتفادى الخسارة، من انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الخمسين دولاراً.
إن هذا لا بد أن يكون لدى صانع القرار التنفيذي، أي مجلس الوزراء، الذي لديه الإمكانات كافة كي يضع خطة واقعية تخدم الاقتصاد الوطني، وليس الاعتماد على الجباية، فذلك يزيد من معدل التضخم، ويدفع إلى تغيير اجتماعي كبير، ولا يزيد من انكماش الاقتصاد.
هنا ثمة سؤال يدور في خلد كل مراقب: هل قرأ الوزراء مقدمة عبدالرحمن بن خلدون عما تفعله الضرائب والرسوم العشوائية غير المدروسة بعناية؟
مرة أخرى، إن الرسوم العبثية على الأنشطة التجارية والصناعية لن تكون مجدية، إنما المجدي جلب المهنيين المهرة الذين تعيش بلدانهم حالة تضخم اقتصادي كبيرة، وفي المقابل فرض ضرائب عادلة ومدروسة، إما غير ذلك سنعيش حالة تطفيش، وسيتركنا الناس إلى بيئة اقتصادية وصناعية وترفيهية أفضل بكثير وهي موجودة في دول أخرى.