لم يعد سؤال: من يحكم العالم؟ سؤالاً فلسفياً نظرياً يُطرح في قاعات الجامعات، ولا تمريناً ذهنياً خاصاً بالنخب الأكاديمية، لقد أصبح سؤالاً يومياً، يفرض نفسه على كل من يتابع ما يجري حوله: قرارات تُتخذ فجأة، أزمات تُدار بارتباك، دول تُكافأ وأخرى تُعاقب، دون أن يكون المشهد السياسي المعلن قادراً وحده على تفسير ما يحدث.
في السابق، كانت الإجابة تبدو بسيطة: الحكومات تحكم، والدول تقرر، والسياسة هي سيدة الموقف. أما اليوم، فإن هذه الإجابة لم تعد كافية، وربما لم تعد صادقة بالكامل، فالعالم الذي نعيش فيه تغيّر، وأدوات الحكم تغيّرت معه، ومراكز التأثير لم تعد محصورة في القصور الرئاسية، أو البرلمانات.
هذا التحوّل هو أحد الأسئلة التأسيسية التي ينطلق منها كتاب: "مدخل إلى الفكر السياسي العالمي من أفلاطون إلى فوكوياما"، ليس بحثاً عن إجابة واحدة قاطعة، بل لفهم كيف انتقل الحكم من سلطةٍ ظاهرة يمكن تسميتها ومساءلتها، إلى نفوذٍ معقّد يصعب الإمساك به.
أولاً: السياسة...الحاكم الذي نراه
لا يمكن إنكار أن السياسة لا تزال تحتل واجهة المشهد، فالدولة القومية لا تزال قائمة، والدساتير لم تُلغَ، والحكومات تُشكَّل، والانتخابات تُجرى، والقرارات تُعلن باسم الشعب.
هذا هو الشكل الكلاسيكي للحكم، الذي تشكّل عبر قرون طويلة من الفكر السياسي، بدءاً من مفهوم السيادة، مروراً بفصل السلطات، وصولاً إلى الدولة الحديثة.
غير أن السياسة رغم بقائها في الواجهة، لم تعد اللاعب الوحيد في غرفة القرار، بل إن السياسي نفسه بات في كثير من الأحيان محاصراً باعتبارات، لا يملك التحكم الكامل فيها: أسواق تتحرك أسرع من القوانين، رؤوس أموال تعبر الحدود دون جوازات سفر، وأزمات اقتصادية تفرض قرارات لا تحظى دائماً بشرعية شعبية.
لم يعد السياسي صانع قرار مطلق، بل أصبح في حالات كثيرة مدير أزمة، أو واجهة لقرارات أكبر منه، وهذا لا يعني نهاية السياسة، بل يعني تراجع قدرتها على الانفراد بالحكم.
ثانياً: المال... الحاكم الذي لا يترشّح
إذا كانت السياسة هي الحاكم الظاهر، فإن المال هو الحاكم الذي يعمل في الظل. فهو لا يترشّح للانتخابات، ولا يخاطب الشعوب، لكنه يمتلك قدرة هائلة على توجيه القرار، فالشركات العابرة للحدود، والأسواق المالية، والتصنيفات الائتمانية، والديون السيادية، أصبحت أدوات ضغط لا تقل قوة عن الجيوش.
الدولة التي تخالف قواعد السوق تُعاقَب فوراً، ولا يحتاج ذلك بياناً سياسياً، لكن فقط عبر هروب الاستثمارات، أو خفض التصنيف، أو ارتفاع تكلفة الاقتراض، وهكذا، يتحول القرار السياسي إلى معادلة حسابية، تُقاس فيها الكلفة قبل المبدأ، والربح قبل القيمة.
أحد التحولات الجوهرية التي يناقشها كتاب "مدخل إلى الفكر السياسي العالمي"، هو هذا الانتقال من مركزية الدولة إلى مركزية السوق، حيث لم يعد المال تابعاً للسياسة، بل شريكاً لها، وأحياناً موجّهاً لمسارها، وفي هذا السياق، يصبح السؤال الحقيقي:
هل تحكم الحكومات بما تراه صواباً ؟ أم بما تسمح به الأسواق؟
السياسة والمال: شراكة مضطربة
العلاقة بين السياسة والمال ليست صراعاً مباشراً دائماً، بل هي شراكة مضطربة. السياسي يحتاج إلى المال ليُنجز، والمال يحتاج إلى السياسة ليحتمي! لكن هذه الشراكة كثيراً ما تميل لصالح الطرف الأقوى تأثيراً، لا الطرف الأعلى شرعية.
وهنا تبدأ ملامح أزمة أعمق: أزمة مساءلة، فالحكومة يمكن محاسبتها، أما السوق فلا يُسأل، والشركات لا تُنتخب، ورؤوس الأموال لا تُحاسب أخلاقياً، بل مالياً فقط.
سؤال مفتوح للغد: إذا كانت السياسة لم تعد وحدها تحكم، وكان المال قد أصبح لاعباً مركزياً، فهل انتهى المشهد هنا؟ أم أن هناك قوة ثالثة صاعدة، أكثر هدوءاً، وأشد تأثيراً، لا نراها بسهولة، لكنها تعيد تشكيل وعينا وقراراتنا دون أن نشعر؟
هذا ما سنناقشه في الجزء الثاني غداً.