محمد الفوزانكانوا ثلاثة أصدقاء جمعهم حب العلم وهيبة المعلّم، دخلوا عصر يوم إلى المسجد، فإذا بمعلمهم يحيى القطان يلقي درس الحديث، مستنداً إلى سارية المسجد، فوقفوا على أقدامهم يستمعون إلى الكلام المبارك حتى أذان المغرب، ولم يجلسوا حياء، وما أجلسهم المعلم!كانوا ثلاثة أصدقاء، لا يكادون يفترقون، ويمضي الزمان فيكونون قادة الهدى وحُرّاس التوحيد والفضيلة، فـ"العلم يرفع بيوتاً لاعماد لها والجهل يهدم بيت العزّ والشرف".علي بن المديني أصبح أستاذ العلل، وشيخ الإمام البخاري الذي قال فيه:"ما استصغرتُ نفسي أمام أحد إلا أمام ابن المديني"، ويحيى بن معين أصبح أستاذ الجرح والتعديل وعلم الرجال، وأحمد بن حنبل إمام أهل السنة في زمانه، الذي حبس التاريخُ أنفاسه أمامه يوم المحنة، إذ أجاب العلماء إرهابَ المعتصم تحت السياط، والحبس الانفرادي، بل أخذ كثير منهم بالرخصة والتَّقيَّة، إلا الإمام أحمد بن حنبل الذي صدع بالحق وثبت ثبات الجبال الرواسي، وكان كلما نصحوه بالرخصة والخضوع ومهادنة الباطل القوي وطاعة ولي الأمر، كان يقول : "إذا أجاب العالم تَقيَّة، والجاهل تمادى في جهله، فمتى يتبين الحق"؟و يقول أيضا: من ينجيني يوم القيامة من هؤلاء الذين يمسكون أقلامهم ينتظرون ما أقول"؟إن هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها خوفًا أو كرهًا أو مهادنة أو البحث عن المصالح الخاصة والتكسّب، ومن صمد أمام هذا الاختبار والبلاء ولم يُجِب مات تحت التعذيب، وفي سجون المبتدعة المنحرفين مثل: البويطي، ومحمد بن نوح، ونعيم بن حماد.وكان صمود الإمام أحمد وصدوعه بالحق أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته، ورفع ذكره، وقد تداول ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم، مع الأسف، من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين، فبعضهم يسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون نحو سنتين وأربعة أشهر، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة ثم الإقامة الجبرية نحو خمس سنوات، منع من الاتصال بالناس، ولم يجبهم إلى طلبهم رغم أن الأمر جاء من حكومة شرعية، لكن الأمر عند أحمد بن حنبل متعلق بعقيدة المسلمين وهويتهم الدينية والثقافية، كان هو الذي يجلدهم بالصبر والثبات. وفي يوم رجع الإمام بعد الجلد إلى زنزانته متألما، فسمع سجين أنينه، فدنا منه وقال له:" أنا أبو الهيثم العيّار اللص، ضُربت ثمانية عشر ألف سوط بالتفاريق، وصبرت في طاعة الشيطان من أجل الدنيا، ألاتصبر أنت في طاعة الرحمن من أجل الدِّين"؟ويضيق المعتصم بالإمام، فيعلن في الجلادين: من يقتله بالسوط؟ويجيب أغلظهم، أبوالدنّ: أنا.– بكم تقتله؟
* بعشرين سوطا.– شدّ … اِقطع … قطع الله يدك!فشدّ وما قطع، وما قُتل الإمام ولا استكان، وكان كلما ضعفت نفسه تذكر مقالة صاحبه السجين!يشاء الله أن ينتصر الإمام بالصبر، فيخرج من السجن حاملاً جراحَه ومنتصراً لعقيدة الأمة وهويتها، وتلتئم الجراح، ويبقى من زمن المحنة ثلاث صور، أولاها : صورة المعتصم وهو يفتح مدينة عمورية، فيقول الإمام:"غفرت للمعتصم ماصنع بي، بفتح عمورية".والثانية : صورة الإمام وقد هجر أصدقاءه وممن وقف معه أمام السارية بين العصر والمغرب،لأنهما أجابا الرخصة، بل وصل إلى حد أنه لم يوافق على الأخذ منهما والتلقي عنهما، ولا عن سائر من لم يصمد في الفتنة واستجاب للضغوط والأوامر والتعليمات التي تهدد عقيدة الأمة وهويتها، وحتى في مرض موته، يدخل عليه ابن المديني يودعه، فيشيح الإمام بوجهه عنه!فيقول علي بن المديني:" سبحان الله ! يا أبا عبد الله، ألا تغفر"؟وبعد حين سأل طالبٌ أستاذه ابن المديني:"لماذا لم تصبر كما صبر أحمد بن حنبل؟فوكزه الأستاذ بمرفقه، وقال له: اسكت… ذاك رجل كنا نشبّهه بالأنبياء".والثالثة : صورة الإمام أحمد بن حنبل بين طلابه، وهو يذكر صاحب السجن، ويقول:"رحم الله أبا الهيثم".
[email protected]