السبت 28 سبتمبر 2024
33°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
منوعات

أدب التواصل الاجتماعي... ميدان جديد للإبداع

Time
الأحد 08 يوليو 2018
View
5
السياسة
القاهرة - شريف حمودة:

يشهد العالم بأسره واقعًا رقميًّا على الأرض وليس فقط في الخيال الافتراضي، وقد امتدت تجليات هذه الاشتباكات الرقمية إلى أنسجة التفاصيل اليومية في سائر المجالات والنشاطات التي يقوم بها الانسان ويتفاعل معها، ومن بينها الأدب والعملية الابداعية عمومًا، على مستوى الانتاج والتلقي.ولا يقتصر الامتداد الرقمي في حقل الأدب على آليات نشر وتوزيع الابداع من شعر وقصة ورواية عبر وسائط تقنية مثل الأسطوانات المدمجة أو عبر الانترنت، لكن تأثيرات هذه الرقمية تتجلي أيضًا في طبيعة المنتج الأدبي ذاته، حيث تبلورت مفاهيم بشأن أنماط أدبية جديدة تحت عنوان الأدب الالكتروني، وظهرت في هذا السياق «الرواية التفاعلية» على سبيل المثال، التي تتيح للقارئ امكانات هائلة بالمشاركة في التلقي، وأحيانًا بالتدخل الذاتي في العمل الابداعي بالتعليق أو الاضافة أو التعديل.

ارهاصات السوشيال ميديا
في هذا الاطار التقني التفاعلي، أدلت وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصًا صفحات الفيسبوك، بدلوها في التأثير على الحقل الأدبي، وصارت هناك اشارات نقدية متناثرة إلى ما يمكن تسميته «أدب السوشيال ميديا» أو الابداع الفيسبوكي أو كتابات التواصل الاجتماعي أو أدب الموبايل، إلى آخر هذه التسميات التي تقصد منتجًا ابداعيًّا يجري نشره وتسويقه وتتم متابعته في الأساس عبر السوشيال ميديا.هذا النتاج الأدبي يدور في معظمه ضمن تيمات شعرية، حيث التكثيف والادهاش المباغت والتأثير اللحظي، ويتمسح في كثير من تجسداته وتشكلاته بفن «الهايكو» الوافد من اليابان والعالم الغربي، لكنه لا يقتصر على الشعر، فهناك ارهاصات سردية أيضًا ذات بنية مغايرة تلائم أجهزة الكمبيوتر وشاشات الموبايل. وفي المضمار السردي، ظهرت في بعض الدول روايات الهاتف الجوال على سبيل المثال، وصارت لها سوق تداولية عبر العالم أدخلتها ضمن خريطة الأكثر مبيعًا، خصوصًا أنها تندرج تحت اطار الأدب الشعبي والكتابة التشويقية المبسطة.

اغتيال العمق الإنساني
ويبقى السؤال معلقًا: هل قدم «أدب التواصل الاجتماعي» في عالمنا العربي أنماطًا ابداعية جديدة في الشعر والسرد، لها قيمتها الفنية، وخصوصيتها التعبيرية كأنساق كاملة تضيف إلى الرصيد الأدبي المحلي والعالمي، أم أن أغلبية هذه التجارب العربية لا تتجاوز الخواطر الضحلة والأبنية المبتسرة التي تمثل ازاحة وربما اغتيالًا للعمق الانساني المنشود؟
فيما يخص الطرح الأدبي العربي، في فضاء السوشيال ميديا، فانه يكاد يكون منحصرًا حتى هذه اللحظة في قوالب شعرية، مختزلة، ذات طبيعة خاصة، تارة تحت مسمى «الهايكو العربي»، كتقليد أو محاكاة للهايكو الياباني، والهايكو الغربي. وفي أحيان أخرى تأتي هذه التجارب العربية تحت مسميات وليدة، تأخذ بعض صفات الهايكو، أو تبتعد عنه عمدًا أو عن جهل به، من قبيل قصيدة الومضة، أو القصيدة البرقية، أو القصيدة المضغوطة، أو قصيدة النانو، أو القصيدة ثلاثية الكلمات، وما نحو ذلك.وفي حين عرفت بعض الدول، كاليابان وفرنسا والولايات المتحدة، روايات وسرديات الموبايل، ذات الطابع التشويقي أو البوليسي أو المغامراتي، التي تُكتب بأسلوب حكائي جذاب غير معقد، وتتمتع بخواص تفاعلية وسمع بصرية تلائم شاشة العرض الصغيرة، ويجري تسويقها على نطاق واسع خصوصًا بين الشباب والناشئة كنمط من أنماط الأعمال الابداعية الأكثر مبيعًا، فان هذه التيمات لا تجد رواجًا في العالم العربي، حيث لا يزال أدب السوشيال ميديا العربي مرادفًا للمحاولات الشعرية المتناثرة هنا وهناك، التي يعدها البعض أدبًا، ويراها آخرون مجرد خواطر مسطحة، وتمسحات شكلية ساذجة بفنون عميقة وافدة من بيئات غير مماثلة.

غزوة الحقل الشعري
طريقان أساسيان سلكتهما المحاولات الشعرية العربية، في عالم السوشيال ميديا؛ الأول: هو ما يسمى مجازًا بالهايكو العربي، والطريق الثاني: هو القصيدة الكمبيوترية المختزلة، التي يراها مؤلفوها ملائمة للفضاء الأزرق، ويجري تأليفها وبثها عادة بشكل مباشر (أون-لاين)، لتكون وليدة لحظتها عند اطلاقها.والهايكو، في موطنه الأصلي «اليابان»، هو لون أدبي ينفلت من اطار الفكرة المسيطرة، والخلفيات الذهنية والمعرفية، ليحلق بالشعرية الخام والتلقائية المتدفقة والروح الفياضة المتوثبة إلى أعلى القمم، متخذًا من التوافق مع الطبيعة ركيزة أساسية، والحس الطفولي البريء طاقة خلاقة، عبر أقل عدد من الكلمات، في اطار هندسة بنائية وموسيقية محددة.
لم يعرف العالم العربي الهايكو الياباني من خلال لغته الأصلية، انما عبر لغات أوروبية وسيطة، حيث انتقل الهايكو إلى أوروبا وأميركا مترجَمًا في البدء، وتطور هناك على أيدي شعراء غربيين. وفن الهايكو في طبيعته الأصلية، وفق «الموسوعة الحرة»، هو ذلك النسق الابداعي الذي يسعي مؤلفه «الهايكست» إلى التعبير عن أحاسيس عميقة جياشة من خلال مفردات بسيطة قريبة، في قصيدة مكثفة من بيت واحد فقط، تتألف من سبعة عشر مقطعًا صوتيًّا، عبر ثلاثة أسطر (خمسة، سبعة، ثم خمسة). تطور فن الهايكو في القرن السابع عشر الميلادي، ومن رواده البارزين «باشو»، و»بوسون»، و»ماسا-أوكا شيكي»، و»كوباياشي اسّا»، وتعد التلقائية والطفولية والتماهي مع الطبيعة واقتران القصيدة بفصل من فصول السنة والابتعاد عن الذهنية والأفكار المعلبة الجاهزة من أبرز سماته، كما في قصيدة الرائد باشو على سبيل المثال: «صفصاف أخضر/ تتقاطر أغصانه على الطمي/ أثناء الجزر».
وفي ثوبه الغربي، تطور الهايكو لدي شعراء الولايات المتحدة وأوروبا، وتحلل من قيوده الصارمة من حيث النسق الموسيقي والوحدات النغمية، لكنها ظل محتفظا بفلسفته الأساسية كشعر فطري لاذهني متفاعل مع الطبيعة وبكارة الحالة الانسانية. وقد كان للشاعر الأميركي «جاك كيرواك» (1922-1969) دور كبير في فتح الهايكو على مجالات أرحب، ومن قصائده التي تتجلي فيها الحركية وخصائص الهايكو كاملة: «العشب يلوّحُ/ الدجاج يقوقئ/ لا شيء يحدثُ». أما الهايكو العربي، الذي وجد له انتشارًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة عبر صفحات السوشيال ميديا من قبيل: نادي الهايكو العربي، هايكو دوت كوم، نبض الهايكو، فضاء الهايكو، نادي الهايكو الحر، وغيرها، فانه قد يتمثل خصائص وفلسفة الهايكو الوافد لدي قلة من الشعراء العرب المتفهمين، وقد يأتي مجرد خواطر فيسبوكية ضحلة لدي الذين يتوقفون عند حدود استنساخ الشكل دون فهم طبيعة الهايكو.
وقد اتجه عدد من الشعراء العرب إلى مستوى أعلى من التخصص، باصدار دواوين شعرية مطبوعة أو تأسيس مواقع خاصة تحت عنوان «هايكو عربي»، منهم العراقي عذاب الركابي، والسوري رامز طويلة، واللبناني ربيع الأتات، وآخرون. والهايكو العربي وفق العراقي عذاب الركابي، هو نسق لا تزال له القدرة على توليد المعاني والاتيان بجديد، وله أكثر من ديوان في هذا المجال، منها «ما يقوله الربيع»، و»رسائل المطر»، ومن قصائده في هذا الاطار: «لا تاريخ/ يفخر به الفراغ/ حينما تملأ النسائم المكان». وبالاضافة إلى نشره قصائده ورقيًّا، فان الركابي يحرص على نشر قصائد الهايكو عبر مواقع الانترنت المختلفة، وصفحته الشخصية، ليفيد من الامكانات التفاعلية للنشر الالكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي.

محاولات
قدم اللبناني ربيع الأتات والسوري رامز طويلة محاولات في هذا الاطار، فأصدر الأتات ديوانه «جنازات الدمي» (محاولات في الهايكو العربي)، وأنشأ طويلة موقعه «هايكو وشعر». من قصائد الأتات المتماهية مع الهايكو الوافد: «أمرر يدي/ بين السماء والأرض/ يختفي الضباب»، ومن قصائد رامز طويلة: «دائم الخضرة/ أيها الجبل/ وان توشَحتَ بياضَ الثلج».أما القصائد العربية المختزلة، ضمن قوالب أخرى تتماس مع الهايكو أو تنفلت من اساره، فمنها القصيدة المضغوطة أو قصيدة النانو متناهية الصغر، كما لدي العراقي أسعد الجبوري: «الشمسُ مخضبة على طول المشرحةِ/ وهذا الصباحُ بلا ديكٍ». وهناك قصيدة الومضة البرقية، كما لدي السوري مصطفي سعيد: «نسيانكِ كذبة/ مقسومة على ألف خيبة».
وقد استخدم نقاد عرب، منهم السوري ابراهيم محمود، مصطلحًا جديدًا هو «شعرية الموبايل»، للتعاطي التحليلي مع مثل هذه النماذج التي صيغت لكي تلائم شاشة الموبايل الصغيرة في الأساس، بوصفها ابداعًا مغايرًا له القدرة على المباغتة والاختزال والتوميض والمفاجأة وصياغة عوالم متوالدة وافتراضية داخل العالم الحقيقي.

استنساخات فجة
ماذا عن أغلبية الابداعات العربية المبثوثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسمى الهايكو العربي وغيره من التيمات الاختزالية؟ الحقيقة أنه بخلاف بعض التجارب الشعرية القليلة لمبدعين متحققين أصلًا في النشر الورقي، فان السواد الأعظم من منشورات السوشيال ميديا لا يتجاوز اطار الخواطر المجانية، والتقليد الفج لقوالب وافدة، من دون وعي فلسفتها.
الطريف أيضًا، أن آلاف العرب الذين يكتبون خواطرهم «أون-لاين» عبر صفحات وأندية الهايكو الالكترونية، يستمدون مرجعيتهم المعرفية وآليات كتابتهم من مواقع وصفحات هشة، تقدم وصفات جاهزة لكتابة فن الهايكو، من دون التعمق في قراءته وفهم ارتباطه بمفاهيم محددة تخص بيئته التي نشأ بها.
من هذه المواقع والصفحات، على سبيل المثال، موقع «عمل كل شيء» (wikihow)، اذ يقدم «وصفة جاهزة» لكتابة شعر الهايكو بالعربية تحت عنوان «كنْ شاعر هايكو، ابدأ رحلتك الممتعة معنا لتتعلم كتابة قصيدة هايكو.»، وتبدأ أولي الخطوات هكذا: «استخلص تجربة مثيرة للمشاعر، فلابد أن تركز قصيدة الهايكو على تفاصيل البيئة المحيطة بحالة الانسان.»، وتستمر النصائح: «صف التفاصيل، فقصائد الهايكو مليئة بتفاصيل تُلاحظ بالحواس الخمس».، الخ الخ.
هناك كذلك صفحة «نخبة شعراء الهايكو»، التي يتابعها أكثر من ثلاثة آلاف فرد، وتشرح بدورها (الخطوات المطلوبة) لكتابة قصيدة هايكو عربية برعاية ومعرفة تجليات السوشيال ميديا. تقول الصفحة لتلامذة الهايكو: «يجب أن تتضمن القصيدة مشهدًا حسّيًّا حاضرًا، ويعني هذا ألا تكون لغتها مجرّدة عن الحواسّ الخمس والمحسوسات والواقع، وألا تكون كلّيّتها في الماضي، وألا تكون قصّة قصيرة جدًّا، وألا تحتوي على أخطاء نحويّة أو أخطاء املائيّة. هذا هو التحدّي، فلنجرّبه معًا.».
أما تلك النماذج الضحلة، والاستنساخات الفجة للهايكو الوافد، التي تعج بها صفحات السوشيال ميديا العربية، فيمكن التمثيل لها بما نشرته مؤخرًا صفحة «نادي الهايكو العربي» للكاتبة أمل رفعت، تحت مسمى «هايكو عربي»، وهي خواطر رومانسية هشة وجافة، وكليشيهات تعبيرية منزوعة من سياقاتها، ولا تمت بصلة لفلسفة الهايكو ونزعته الطفولية الابتكارية التلقائية ولجوئه إلى الطبيعة وفصول السنة. تقول: «اشتياقي/ نهاية عبور/ الشعر فيك/ قصيد جحود/ أغرقني جفاك».
آخر الأخبار