الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
29°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
منوعات

"أنساق التخييل" مغامرة صلاح فضل لفض اشتباكات السرد العربي

Time
السبت 17 نوفمبر 2018
View
5
السياسة
القاهرة - شريف حمّودة:


يشكل السرد العربي الفضاء الأرحب للكتابة المعاصرة والطليعية في السنوات الأخيرة، خصوصًا من خلال الروايات المطولة ومتعددة الأجزاء التي تفسح المجال واسعًا لانطلاقات التخييل وقفزات التصوير الجداري، إلى جانب ترصُّد حركة الحياة ومعطيات الواقع الراهن بأمانة واصطبار وعمق.
في هذا الإطار، اتسع مجهر الناقد الدكتور صلاح فضل في أطروحته الجديدة "أنساق التخييل الروائي" لأكثر من خمسين رواية من الأعمال المهمة الصادرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حيث يناقش على نحو تحليلي وتطبيقي أجواء هذه العوالم الثرية للكتاب العرب من دول وأجيال وتيارات متباينة، ومنهم الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل، الذي يصفه فضل بـ"صاحب الخيال الخصب، القابض على ملح الأرض، والقادر على صوغ سبيكة الحياة في هشاشتها وتحولاتها المنظورة".
وفق تعريف د.صلاح فضل بملامح دراسته المستفيضة، يشير في المقدمة إلى أن تجربته التطبيقية في النقد الروائي ومطارحة الأعمال الإبداعية قد تمخضت خلال العقود الثلاثة الأخيرة عن رصد عدد من الأنساق، يتوافق بعضها مع الأساليب السابقة، ويختلف بعضها الآخر عنها، وهي لا تتولد مثلها من تفاعل بعض التقنيات الفنية، بقدر ما تنبثق من العامل المهيمن على العمل في محصلته.
ويعدد د.فضل أنساقا من التخييل أسفرت عنها رحلته الاستقصائية، هي: التخييل الذاتي، والجماعي، والتاريخي، والأسطوري، والبصري، والعلمي، بالإضافة إلى نوع سابع يمكن تسميته التخييل الرقمي أو الافتراضي، وهو يعتمد على عالم الواقع المعلوماتي الافتراضي، وإن ندرت النماذج الممثلة له.
انحياز د.صلاح للرواية، يفسره بأنها من وجهة نظره قد غدت قبلة الموهوبين، حيث يلوذ إليها المبدعون في سائر الفنون، كالشعر والموسيقى والتصوير والسينما وغيرها، ليصوغوا الأحداث التي مروا بها والتجارب التي لامسوها في هيئة سياقات سردية منتظمة.
وفق هذه الرؤية التي تعظّم الفعل الروائي، انطلقت بوصلة الناقد فضل إلى كتابات نخبة من الكتّاب العرب، منهم: إبراهيم أصلان، مكاوي سعيد، جمال الغيطاني، صنع الله إبراهيم، إلياس خوري، إسماعيل فهد إسماعيل، إبراهيم عبد المجيد، محمد برادة، رءوف مسعد، سلوى بكر، شكري المبخوت، عالية ممدوح، طارق بكاري، وغيرهم.
في قراءته للنسق التخييلي الخاص بالكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل في روايته "على عهدة حنظلة"، يذهب د.صلاح إلى أن إسماعيل ، القادر على صوغ سبيكة الحياة في هشاشتها وتحولاتها المنظورة، يقدم في هذا العمل رؤية ثاقبة لعالم المبدع الفلسطيني المغــــدور ناجي العلي (1937-1987)، حيث يصور الأيام التي قضاها العبقري ناجي العلي في حالة موت سريري في مشفاه بلندن عقب إطلاق الرصاص على رأسه، متمثلًا حوارًا صامتًا بينه وبين مخلوقه الكاريكاتيري "حنظلة" من ناحية، ومع زوّاره الذين يعودونه ويستحثونه على التشبث بالحياة في صراعه من ناحية أخرى.
يلتقط د.فضل تفاصيل هذه المغامرة الشائقة، التي استغل فيها الكاتب إسماعيل فهد إشعاعات الرسم ورمزية الشخصية وتفجر القضية الفلسطنية وتعقد الظروف المحيطة بالموقف، وبدلًا من الاستغراق في الخواطر السياسية والتاريخية عمد إلى حيلة ممتعة هي صحبة نصين آخرين يناوشان كتابته ويحيطانها بهالة شعرية رائعة، هما مقطوعات مختارة من أشعار درويش التي كتبها عن ناجي، وسطور مقروءة بحب من سرديات إميل حبيبي، وكأن مجمع الأرواح التي يحشدها إسماعيل في روايته المكثفة العميقة يصبح معرضًا لتجليات العبقرية العربية في فلسطين في أبهى توهجاتها الخارقة، ويمضي نسق التخاطر الافتراضي بين الرسام وأيقونيته على التوازي مع الأصوات المحيطة، وفي مقدمتها أبيات درويش وكلماته التي يصفه بها: "جوهري حتى النخاع، هذا هو ناجي الذي يغنيك عن الجريدة، ويغني الجريدة عن الكتابة".
وفي تفاعله مع النسق التخييلي لرواية "نوميديا" للكاتب المغربي طارق بكاري، يرى د.صلاح أن الرواية لا تزال تلعب دورًا خطيرًا في تجذير الوجود الأنثروبولوجي للكيانات الإثنية التي تتعايش في الوطن العربي، وتنتقل بها من مرحلة الاحتدام العرقي وما يفضي إليه من تطرف طائفي عندما يتم كبته وتجريمه، إلى مرحلة التوافق الصحي، إذ يحتضنها الوعاء العربي الوسيع بلغته وثقافته المتآلفة، فالنوبيون والطوارق والأكراد والأمازيغ عندما ينخرطون في جسد ثقافي واحد بالكتابة العربية، يخلعون عن عرقياتهم إثم العزلة، ليذيبوا توتراتهم ويبرزوا خصوصيتهم وهم يكتسبون شرعية الاندماج المتعدد الخلاق.
ويصف د.فضل رواية "نوميديا" بأنها نموذج شيق لعبور الهوة وانصهار الثقافة بين العرب والبربر الأمازيغ فى الشمال الإفريقي، وإن كانت لا تصمت عن الجروح التي ما زالت دامية من المستعمر الأوروبي، فقلعة الرومي التي تطل على قرية "إغرم" ملاذ بطل الرواية "مراد" تجسد هذا الماضي الكئيب، حيث اعتصم ببرجها المنيع أحد طغاة الاستعمار وجعل يمطر أهل القرية وابل رصاصه حتى افتداه شيخها بابنه وبنى الضريح، وامتدت الأسطورة لتعيش في وجدان الناس وجرى تقديس التضحية.
ويترصد د.فضل كيف تمتد ذاكرة الراوي لتغرف نصوصها الأثيرة من كل العصور والثقافات، فهو يتحدث عن رفيقته الفرنسية الشقراء جوليا، التي غرقت معه في بحر العشق في رحلة الاستعادة وحملته على البوح بأسرار طفولته، فاخترع لها حيلة التمييز بين شخصيتين، إحداهما أوداد، وزعم أنه كان صديقًا لصيقًا بطفولته، إلى جانب شخصيته هو، وتصور أنها تمثلت عذابات أوداد، حتى لتكاد تجزم بأنه "أتعس منه لم تلد النساء"، وتنتصب المفارقة بين التعاسة والجمال لتجعل وقعها أشد في التضاد الفادح بين الطرفين.
ويمضي د.فضل في أطروحته المغامرة محلقًا في فضاءات السرد الروائي وراصدًا تشابكاته وأسراره، وفي قراءته رواية "الأجنبية" للعراقية عالية ممدوح، التي نضجت في المهجر الفرنسي منذ ثمانينات القرن الماضي، واكتوت بعذاب وطنها عن بعد، يرى أنها تحكي في هذه السيرة الروائية صفحات من كتاب المحنة الداهمة، وتبوح بأسرارها المعلنة ومواجدها المكتومة، وتقلصات روحها ولغتها وصورها في جحيم المنفى المرغوب لا المحبوب، وقلقها المتعثر في اكتساب لغة غريبة على كينونتها،
وحرصها على تنمية خوفها من كل شىء، إلى جانب وله عتيق بالكتابة الوجودية الكاشفة للمسافة الواصلة بين الإبصار والتخيل.
مــن وجهة نظر د.فضل، فإن ميزة الروائيين الذين يتعرضون مباشرة لسيرهم الذاتية باحتراف أنهم لا يرفعون برقع الخيال والحياء مرة واحدة، بل يعرفون بخبرتهم التقنية وحسهم الجمالي كيف يعزفون على الأوتار الشجية بلمسات حاذقة لها خطتها المدروسة.
وتبوح عالية بأن الخوف مما تسميه "اللاجمال" كان باعثها الأساسي للكتابة، فأخوها كان بالغ الوسامة والجمال، حتى إن جدتها كانت تخاف عليه من أخطار ذلك الجمال الفائق، بينما كانت هي "تتمايل من قلة ملاحتها"، على حد تعبيرها، فقد كانت آنسة يافعة، تريد من الجمال أن يحضر كي لا تبقى
وحيدة، فتضمر سوء الفهم الذي لا يزول بسرعة بينها وبين نفسها.
ومن آراء د.فضل كذلك أن الروائي على وجه الخصوص، مهما كانت ميزته النسبية في الكتابة، لا يستطيع أن يصدق تمامًا في رواية سيرته الذاتية، فكل تمثيلاته الجمالية للآخرين تنبثق من أعماق ذاته حتى وهو يصور ما لا يتشارك فيه معهم، فالألوان والكلمات والمشاعر من صنعه، تحمل عطره وبخره، وتجسد في النهاية رؤيته للحياة، لكنه عندما يخضع لحظة حميمة من تجربته الخاصة للتحليل بمجهر السرد لا يلبث أن يجعل من نفسه نموذجًا موضوعيًّا.

محبة وغيرة
أما في تحليله للنسق التخييلي للكاتب مكاوي سعيد في روايته الضخمة "أن تحبك جيهان"، فإن د.صلاح يرى أن المؤلف أتقن تقديم الأصوات النسائية إلى حد كبير، بخاصة في علاقاتهن ببعضهن وما يغمرها من مزج المحبة بالغيرة والحساسية، بالإضافة إلى الرؤية المتنوعة لعالم الرجال، لكن النسيج الحريري المرهف المتواشج لهذه الأصوات الناعمة يفتقد خشونة الصراع الدرامي في الأحداث الصغيرة المتوالية المنبسطة، فليس بينهن نزاع على الرجال أو المال أو غيرهما، بل يتداولن السرد بالتوالي من نقطة رصد متقاربة.
وثمة نوعان من الخبرة يمكن اكتسابهما بقراءة الأعمال الإبداعية الكبرى على مهل، أولهما وأقربهما وفق د.فضل: الخبرة الحيوية الساخنة بالعالم، مما يضاعف عشرات المرات أصدقاءنا ويمد في أعمارنا ويعمق وعينا وتجاربنا، والنوع الثاني هو الخبرة الجمالية المرهفة بتقنيات الفن ولغته وأدوات تأثيره في المتلقي إلى جانب فلسفته ورؤيته الكلية، وهذه أمور الصنعة التي يعرفها المختصون ويدركها القراء بحساسيتهم بحسب درجة فطنتهم وتجربتهم، ورواية مكاوي حافلة بهذه الخبرات المعتقة والطريفة على السواء، فالنماذج التي يقدمها بعمق واستقصاء ويسقينا ماء وجهها ورحيق شخصيتها كفيلة بأن تثبت في الذاكرة وتشتبك بما نعرف عن مثيلاتها في الحياة.

احتضان التاريخ
في تقصيه لعمل رؤوف مسعد "زهرة الصمت" يرى د.صلاح أن هذا النسق التخييلي ليس فيه من الرواية من شيء، بل هو نقيض النوع الأدبي المعروف، وأمشاج من الحكايات المبتورة والمشاهد المنثورة، والشروح المطولة، والنقول الممتدة من المعاجم والدراسات والنصوص القديمة والحديثة لصفحات عدة من دون رابط عضوي، بحث غير متماسك يفتقد أطر الزمان وشروط المكان ووحدة الشخوص. قد تكون في دلالتها صرخة في البرية، نشيدًا للوطنية، دعوة لاحتضان التاريخ وإعادة إنتاجه في أتون الأحداث المعاصرة، قد تقدم قبسًا من أساطير ما بعد الفتح العربي وأوجاعه المريرة، رؤية لمصر وهي تسلخ جلدها الديني ثلاث مرات في تاريخها الفرعوني والقبطي والإسلامي، لكن أية رواية يمكن أن تحيط بهذه المصائر مهما تذرعت بتقنيات تداخل النصوص وتقليب الأزمان؟
أطروحة "أنساق التخييل الروائي" للناقد صلاح فضل، إطلالة جامحة على أبرز أصوات السرد العربي وحالاته في السنوات الأخيرة، ومغامرة تستحق التحية لفض الاشتباك بين أنساق التخييل المتباينة التي ترسم في تجاورها وتحاورها صورة بانورامية شاملة للمشهد الروائي المقبل.
آخر الأخبار