نكتة أفقدت ملك الكوميديا عرشه حجزت الضرائب على أمواله فأصابه الانهيار والشللالملك فاروق أودعه مستشفى المجانين بسبب دعابةعانى من قسوة زوجة أبيه... وجدته عرضته رهينة للإنكليزتشرد في بداية حياته الفنية بالقاهرة واتخذ من المساجد مكاناً ينام فيه تزوج ثلاث مرات... الأولى خانته والثانية طلقها بعد أسبوع والثالثة أنجبت ابنه الوحيد القاهرة - علا نجيب:من يقترب من حياة مشاهير الفن، يجدها أكثر درامية ومأساوية من الأعمال الفنية التي قدموها وجسدوا شخصياتها رغم وهج الشهرة والحفلات والثراء الذي تمتعوا به لسنوات طويلة. في هذه الحلقات تقترب "السياسة "، أكثر من حياة مجموعة من أشهر نجوم الفن، ممن بلغوا قمة النجومية والشهرة وحققوا الملايين، عاشوا حياتهم بالطول والعرض، وأنفقوا ببذخ، لكن النهاية التي كتبها القدر كانت أكثر مأساوية مما نشاهده في الأعمال الدرامية.لم يكن يدري الفنان الكوميدي إسماعيل ياسين، الذي نجح في انتزاع الضحك من الجميع، أن نهايته ستكون مأساوية بهذا الشكل، وأنه سيتعرض للإفلاس، مما أصابه بالشلل وجعله حبيسا في منزله، كما عانى من اكتئاب أودى بحياته، ليرحل عن الدنيا التي جعلته أسيرا للأحزان.رغم شهرة ياسين في الت"رفيه عن الكثيرين ومنهم ذوو النفوذ والمناصب، إلا أنهم لم يمدوا له يد العون والسند Aالقاسية التي حرم فيها حنان الأم ولهفة الأب، فقد ولد بمدينة السويس في سبتمبر 1912، إلا أن حياته بدأت بمأساة كبيرة عندما ماتت والدته بالسكتة القلبية بعد شجارها مع والده الصائغ المعروف، الذي لم يكن يوفر لهما مصروفات البيت، لأنه مشغول بغرامياته وولعه بالنساء، حتى أنه بعد وفاة زوجته بعدة أشهر تزوج أخرى، ومنذ اليوم الأول كانت زوجة الأب تعامل الطفل إسماعيل بقسوة، مما دفع إسماعيل للتفكير فى الهرب مرارا، لكنه كان يعدل عن قراره لصغر سنه، ثم فضل العيش مع جدته لوالدته، لكنه فوجئ بمعاملتها القاسية، اعتقادا بأنها بذلك تنتقم من والده، فكانت تحرمه من الطعام اللهم إلا وجبة طوال اليوم، وهناك حادثة لم ينسها طيلة حياته عن قسوة الجدة عندما ضلت طريقها وكان بصحبتها، فدخلت إحدى ثكنات الجيش البريطاني، فاضطر الجنود لإشهار أسلحتهم في وجههما، فخافت الجدة وطلبت منهم ألا يمسوها بأذى وأن يأخذوا الطفل رهينة أو حتى يقتلوه ويتركوها لحال سبيلها، في ظل هذا الإهمال من والده وجدته لم يستطع اكمال دراسته، فأنهى المرحلة الابتدائية بالكاد وظلت تلك عقدة حياته، إلا أن الأمور سرعان ما تغيرت لمرور والده بضائقة مالية عجز معها عن تحمل تكاليف الحياة مع زوجته وتبذيرها، فاضطر الى إعلان افلاسه وغلق محل الذهب وتراكمت عليه الديون، ليصبح السجن مصيره، فاضطر إسماعيل أن يبحث عن عمل يكتسب منه قوت يومه، فعمل مناديا أمام أحد محلات القماش، يغري الزبائن بالشراء من المحل.ورغم بؤس الحياة، كان إسماعيل يحلم بأن يصبح أحد المغنين مثل عبدالوهاب، إذ كان مولعا به ويحرص على شراء اسطواناته رغم ضيق ذات اليد، لذلك ما ان أتم عامه السابع عشر حتى قرر السفر إلى القاهرة للالتحاق بمعهد الموسيقى، لكن حظه العثر جعله يفقد معظم نقوده، فاضطر إلى المبيت عند بعض أقاربه، إلا أن معاملتهم السيئة جعلته يلجأ إلى أحد مساجد القاهرة القديمة ليبيت فيه، وأمام ظروفه القاسية لم يجد أمامه سوى العمل مغنيا في الأفراح الشعبية، يقدم بعض الأغنيات الخفيفة بمصاحبة الراقصات، لكنه كان يقابل باستهزاء الجمهور الذي لم ير فيه إلا مهرجا لا يصلح لأداء أغنيات أو مواويل، مما أصابه باليأس وترك الغناء لفترة وعمل في مكتب محاماة.لعبت الصدفة دورها في حياة ياسين عندما تعرف على المؤلف أبو السعود الإبياري في أحد مقاهي وسط البلد، فرشحه للعمل "مونولوغست" في الملهى الليلي الذي تمتلكه الراقصة بديعة مصابني، لكنها رفضته في بداية الأمر لقباحة وجهه وفمه الكبير، ولكن بعد تدخل الإبياري ومحاولته لإقناعها وافقت على مضض، وسرعان ماعدلت عن رأيها واقتنعت به عندما لمست حب الجمهور له وولع به وحرصه على حضور فقرته الاستعراضية.نزاع قضائيفي الأربعينات تردد اسمه في الأوساط الفنية بعد اختيار الفنان أنور وجدي له ليقوم ببطولة فيلم "المواطن الناصح" وينتجه له أمام الفنانة ماجدة، التي لم تكن تجاوزت السادسة عشر آنذاك، ورغم أن الفيلم لم يحقق الإيرادات المطلوبة، فإنه أيضا انتهى بالمنتج إلى ساحات القضاء، حيث أن الفنانة ماجدة قامت بتمثيل الفيلم دون علم أبويها وأخفت خبر مشاركتها عنهما لكونهما من أسرة محافظة لن ترضى لابنتها بالعمل ممثلة في السينما، لكن أحد أقاربها وشى بها عند أسرتها، فقام والدها بضربها ولم يكتف بل رفع دعوى قضائية ضد منتج الفيلم لاستغلاله قاصر في العمل السينمائي، واستمر التنازع القانونى 6 أشهر. بعد تجربته مع هذا الفيلم وتقديمه المونولوغات الغنائية بفرقة علي الكسار التي التحق بها بعد بديعة مصابني، ذاعت شهرته في الأوساط الراقية لقدرته الفائقة على إشاعة جو البهجة، مما دفع الملك فاروق أن يطلب دعوته الى الاستراحة الملكية للترفيه عنه، وحضر ياسين وبدأ في إلقاء مونولوغاته، وطلب منه الملك أن يلقى عليه نكتة، ثم قال "مرة واحد مجنون زي جلالتك كده"، ليصرخ الملك قائلا "أنت بتقول إيه يا مجنون"، ليضطر اسماعيل للتظاهر بالإغماء والوقوع أمام الملك، فجاء طبيب الملك وقام بفحص إسماعيل ولحبه له وإنقاذا لإسماعيل من مصير مجهول، أخبر الملك بأن اسماعيل أحيانا ما يصيبه ضعف في الذاكرة وحالة من الهياج العصبى، ليأمر فاروق بوضعه بمستشفى المجانين لحين شفاءه، ولعل هذا سبب تمثيله البارع في الأفلام التي قدم فيها مشاهد بمستشفى الأمراض النفسية.عقدة النساءرغم مرور إسماعيل بمحطات مؤلمة مثل محطته العاطفية، لكنه لم يفقد بريقه الفني وقدرته على الإضحاك رغم أن قلبه كان ينزف آلما، بدأ رحلته العاطفية بدخوله فرقة بديعة وتعرفه على المونولوغست سعاد وجدي، وبعد قصة حب تزوجها، لكنه انفصل عنها بعد شهرين من الزواج فقط فور اكتشافه خيانتها، حيث أنها كانت تبرر خروجها المتكرر بزيارة والدها، إلا أن أحد أصدقاء إسماعيل أخبره أنها تتردد على أحد الرجال بمنزله، فذهب خلفها واكتشف الخيانة، فقرر طلاقها والانفصال عنها، وسببت له ألما وجرحا كبيرا لم ينساه أبدا، ثم عاش قصة حب ثانية مع إحدى الراقصات بفرقة بديعة تدعى ثريا وكانت تعمل معه في الفرقة، إلا أن تقاليد الفرقة آنذاك كانت تحرم زواج زميلين حتى لا يؤثر ذلك على عملهما، ولكنهما تحديا الظروف وتزوجا، الغريب أن زواجهما لم يستمر سوى أسبوع واحد، وطلقها بعدما أرهقته بطلباتها المادية فضلا عن إسرافها في شرب الخمر والتفوه بألفاظ بذيئة وخادشة للحياء، وبعد التجربة الثانية أصابته عقدة من النساء، فقرر الابتعاد عنهن، حتى جاءت فوزية والدة ابنه الوحيد ياسين لتفك عقدته من النساء وتغير رأيه عنهن، وكانت وجه السعد عليه وأنجبت له ولده الوحيد ياسين.ساهم اسماعيل في كتابة تاريخ المسرح الكوميدي المصري، فقام بتأسيس فرقة تحمل اسمه ظلت الفرقة تعمل 12 عاما بدءا من العام 1954 حتى 1966 وقام التلفزيون بتصوير العديد من مسرحياته، قدم خلالها ما يزيد عن 60 عملا، أهمها "الكورة مع بلبل "، "عريس طنط جلاجل"، و"منافق للايجار" واستعان بكبار المخرجين لإخراجها مثل السيد بدير ومحمد توفيق ونور الدمرداش، كما اعتمد فيها على الوجوه الفنية المشهورة مثل سناء جميل وشكرى سرحان وتحية كاريوكا.بداية المحنةتناثرت الأقاويل عن علاقته بالرئيس جمال عبدالناصر، خصوصا أنه الفنان الوحيد الذي قام بتمثيل عدة أفلام تبين دور الجيش المصري وقوته لتحفيز أبناء الشعب على الالتحاق بخدمة الوطن وكانت معظمها تحت عين المخابرات، فضلا عن مساهمته في تسليح الجيش، وربطت صداقة قوية بين ابنه وأبناء الرئيس جمال، ما أثار غضب ووشاية الحاقدين عليه، الذين انتهزوا ما حدث لياسين مع السلال ليكتبوا بداية رحلة الهاوية له. فأثناء زيارة المشير اليمني عبدالله السلال لمصر في رحلة علاج بالاسكندرية، طلب إسماعيل ياسين للتخفيف عنه وإضحاكه، فقامت المخابرات المصرية بدفع مبلغ كبير لإسماعيل لإسعاد المشير وكانت ترسل سيارة خاصة يوميا لنقله الى الاسكندرية، وخلال الزيارات المتكررة كان المشير يطلب منه القاء نكتة واحدة لكن مع التكرار اليومي شعر إسماعيل بالملل، فطلب من المشير تسجيل النكتة بدلا من إلقاءها ليكون قادرا على سماعها وقتما يشاء، إلا أن السلال أكد أن طريقة القاءه للنكتة وتعبيرات وجهه هي التي تضحكه، وبعد شفاء المشير أقام حفلا كبيرا وجه الشكر فيه لإسماعيل على مساهمته في التخفيف عنه وشفاءه لا سيما النكتة اليومية، وعند سؤاله عنها قال "يحكى أن هناك رجلا يجلس كل يوم على المقهى ممسكا بالجريدة ويقرأ الصفحة الاولى ثم يقف غاضبا وثائرا ويلقي بالجريدة على الأرض، وعندما سأله رواد المقهى عن سبب غضبه أكد لهم أنه يقرأ صفحات الوفيات، فأخبره أحدهم أن صفحات الوفيات دوما تكون في الداخل، فأجابه أعرف لكن من انتظر خبر موته لن يعلن إلا في الصفحة الأولى، مما جعل المحيطين بناصر يقولون ان النكتة إسقاطا عليه، ما أثار غضب الرئيس عليه وتدخل بعض الأصدقاء المشتركين لتهدئته".وبعد أن كان نجومية ياسين لامعة بشدة في الخمسينات، إلا أن الأضواء أخذت تنحسر عنه بداية الستينات، وبدأ بعض الفنانين في محاربته بتحريض من مراكز القوى المحيطة بعبدالناصر، فتعثرت مسيرته الفنية ولم يقم بالتمثيل إلا في بضعة أفلام حتى نكسة 67، فضلا عن إصابته بمرض القلب الذي زاده ألما، حتى عندما تم إنشاء مسرح التلفزيون ودخلت الدولة في الانتاج الفني ابتعد المنتجون عن الاستعانة به حتى أن بعضهم كان يتفق معه على البطولة ثم سرعان ما يختفي وتتبخر أحلامه في عودة نجمه للتحليق مرة أخرى، الأغرب من ذلك أن معظم أعماله المسرحية التي قدمها ووصلت لأكثر من 60 مسرحية وتم تصويرها للتلفزيون المصرى محيت تماما واندثرت، بعدما أخطأ أحد الموظفين وقام بمسحها جميعا إلا فصلين من مسرحية "كل الرجالة كده" وفصل من مسرحية أخرى، وترددت أقاويل أن المسح كان متعمدا لمحو تاريخ إسماعيل ياسين المسرحي.ولأنه لم يكن قريبا من المسؤولين في الحكومة أو يتملق أحدا، دفع ذلك مسؤولى الضرائب إلى الحجز على بعض ممتلكاته بما فيها سيارته الخاصة، وبسبب الصداقة القوية التي كانت تربط ابنه ياسين بأبناء الرئيس عبدالناصر أبلغهم بما جرى لوالده ما دفع الرئيس لمخاطبة محافظ القاهرة فأعاد له السيارة.المحطة الأخيرةبعد فقدانه بريق الشهرة قرر السفر إلى لبنان بحثا عن لقمة العيش، حيث قام بتقديم بعض الإعلانات ولعل أشهرها تقديمه إعلان عن أحد مساحيق الغسيل، فضلا عن غناءه في الملاهي الليلية، وعندما عاد إلى مصر، فوجئ بأن الضرائب حجزت على رصيده البنكي الذي كان نحو 300 ألف جنيه، ولم يجد في رصيده سوى اثنين جنيه فقط، مما أصابه بالشلل النصفي لأسبوع كامل، نتيجة تعرضه لانهيار عصبي شديد جعله غير قادر على التحدث، فاضطر إلى بيع فيلته الأنيقة والانتقال لإحدى الشقق، كما تم الحجز على العمارة التي كان يمتلكها وينفق منها على أسرته وكانت دموعه تتساقط لابتعاد أصدقائه ومعظمهم ممن كان يمد لهم يد العون.حاول المنتج أحمد ضياء رفع حالته المعنوية فأشركه في بطولة فيلم "الرغبة والضياع" أمام رشدي أباظة وهند رستم، وفور دخوله موقع التصوير فوجئ بالاستقبال الحافل من قبل العاملين بالفيلم لدرجة ذرف معها دمعة الفرح، إلا أن فرحته لم تكتمل فبعد صدور البوستر رأى أن ترتيب اسمه جاء خامسا ودوره كان ثانويا ولا يليق بتاريخه الفني، بات على أعتاب الدخول في اكتئاب إلا أنه اضطر للموافقة حتى يعود للأضواء. وكأن الدنيا أبت أن تبقي له من يؤانسه في وحدته، فبعد وفاة صديقه المخرج فطين عبدالوهاب شعر بأنه لم يعد له مكان في الحياة الموحشة التي طغى عليها النكران، قرر السفر الى الاسكندرية للابتعاد عن الأحزان ولكنه سرعان ما عاد الى القاهرة كأنه يضع اللمسات الأخيرة في حياته.في ليلته الأخيرة من العام 1972 وقعت مشادة بينه وبين ولده، أصيب فيها بنوبة قلبية ولم يستطع قلبه الضعيف تحمل إهانة فلذة كبده له، فتوفي قبل أن يكرمه الرئيس السادات الذي كان ينوي تتويج مسيرته الفنية بتكريم رسمي، ليرحل ملك الكوميديا بعد حياة حافلة بالمآسي والدموع رغم موهبته الالهية في رسم البسمة على الشفاه، المفارقة أنه في اليوم التالي لوفاته ظهرت مشكلة في دفنه، حيث أن مقابر عائلته في السويس تمت ازالتها أثناء توسعة الميدان، فعرض الفنان سمير صبري على أسرته دفنه بمقابر عائلته بالاسكندرية ولكن كان من الصعب السفر، فعرضت الفنانتان درية أحمد وفتحية أحمد زميلتاه بفرقة بديعة مصابني دفنه بمدافن أسرتهما في البساتين وبالفعل تم دفنه هناك، ليسدل الستار على حياة أسطورة الكوميديا، الذي لم ينافسه أحد في خفة ظله وبراعته في ارتجال الإفيهات والمونولوغات الخفيفة.