إعداد - نورة حافظ:الدنيا سجن المؤمن وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة".. هذا قول رجل قيل فيه إنه أمير الأتقياء وعالم زمانه، أنه عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي المروزي. وكنيته "أبو عبدالرحمن"، والذي عرف أيضا بأنه رحالة يبحث عن العلم في كل مكان.

مولده ونشأتهولد في مدينة مرو إحدى مدن خراسان عام 118هـ، وقت حكم الخليفة هشام بن عبدالملك وأفول نجم الدولة الأموية، ثم فترة الدولة العباسية وارتفاع شأن الموالى – غير العرب-، وتوفي في مدينة هيت بمحافظة الأنبار بغرب العراق عام 181هـ وقت حكم الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهو بهذا عاهد عصرين اختلفًا سياسيًا ولكن اتفقا في ازدهار علوم الدين والدنيا.نشأ "ابن المبارك" في أسرة بسيطة فأمه كانت خوارزمية وأبوه تركي يعمل حارسًا لبستان أحد الأثرياء، لم تمنعه هذه النشأة أن يشب قويًا ويطلب العلم ويجاهد في سبيل الله بهمة وإقبال فأقام بعمله وعلمه ما أغناه عن الانتساب إلى أشرف القبائل وأعلى الأنساب، على الرغم من وجود بعض النعرات الجاهلية من إنصاف العرب على الموالى.ترحل لطلب العلم في كل المدائن والعواصم، فلم يترك موطنًا لعلم إلا وطئه يبذل في سبيله الجهد والمال والعمر لذلك، عرف بأنه كثير الترحال قاسيًا على نفسه، ويروى عنه أنه كان كيسًا وورعًا تقيًا متثبتًا، فلم يغره كم العلم؛ بل اهتم بالتحقق منه ومراجعة الأسانيد الثقة وأعظم اهتمامه كان بعلم الحديث يتحرى في جمعه حتى جمع منه أربعين حديث، وفيه قال: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء". كانت دراسته هي عمله وحياته، فهو الفقيه وعالم الحديث والمؤرخ، وقلما تجتمع هذه العلوم لرجل حتى سئل يومًا: "من الناس؟"، فقال: "العلماء"، فساله: "من الملوك؟"، فقال: "الزهاد"، قيل "من السفلة؟"، قال: "الذين يعيشون بدينهم".فلسفته وحكمته كان "ابن المبارك" في موسم الحج يجتمع إليه إخوانه من أهل مرو يقولون له: "نصحبك"، فيقول: "هاتوا نفقاتكم فيضعها جميعًا في صندوق ويغلقه"، فينقلهم من مرو إلى بغداد، وقد جهزهم بأحسن زى وأطيب طعام وحلوى، ومنها إلى مدينة رسول الله (ص)، فيسأل كل منهم ما يبغي أن يشترى لعياله فيشتريه له، ثم يدخل بهم مكة حتى إذا أتموا الحج اشترى لهم مجددًا ويدلف عائدًا بهم إلى مرو، ثم يفتح الصندوق ويسلم كل منهم صرته عليها اسمه لم تنقص شيئا، وهو ما يعكس جواده ومحبته لقومه، ليس هذا فحسب ؛ بل كان كثير الإنفاق على الفقراء والغارمين، حتى قال في علمه وخصاله سفيان الثوري: "إنى لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام"، وقول ابن عيينه: "نظرت فى أمر الصحابة، وأمر عبدالله، فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوهم معه".ترك "ابن مبارك" تراثًا مضيئًا وعلمًا نافعًا ومكتبة علمية عظيمة منها كتاب (الزهد)، والذي ضمنه الأحاديث الضعيفة، مشيًرا إلى ضعفها مع إمكانية العمل بها في فضائل الأعمال، وكذلك كتاب "الرقائق" وكتاب "الجهاد" وغيرهم، تتلمذ عليه الكثيرون وروا عنه ومنهم سفيان الثوري والفزاري وأبو بكر بن عياش ويحيى بن معين، والكثيرون ممن صاحبوه ومن جاءوا بعده فلم يروا فيه سوى الصوفي فريد العلم والخصال في زمانه، الرحالة صاحب الحكمة الجواد عبدالله بن المبارك.