إعداد - نسرين قاسم:على الرغم من اتباعه مذهب التصوف والحب الإلهي، لكنه اختلف عن أقرانه في أنه تصوف دون أن ينعزل عن الناس أو يمارس حياة الخلوة الانفرادية والعيش في الكهوف والجبال، فقد كان ـ يرحمه الله ـ مؤمنا بدور العالم بين الناس يأكل معهم ويعيش بينهم يتشارك معهم الحياة العامة يؤثر ويتأثر بهم ؛ بل كان لـه مجلس خاص يعلم فيه طلابه ويفتي إذا قصده الناس بأمر مختلف فيه، لذلك كان يقول عن التخلي: "تركتُه للَّه حتى يأتيني اللَّه به". إنه الإمام الجنيد البغدادي.

مولده ومذهبه اسمه الحقيقي أبو القاسم النهاوندي البغدادي، ولد في بغداد بالقرن الثالث للهجرة، وكان من أعلام التصوف وأطلق عليه "طاووس العلماء" و"سيد الطائفة"؛ إكرامًا لعلمه واعترافًا بأهمية ما قدمه للمذهب الصوفي، خاصة وللعلم بصفة عامة فقد اعتبر من علماء أهل السنة والجماعة مثلما كان في المذهب الصوفي.وقد سُئل الإمام الجنيد البغدادي رحمه الله: "من هو المحب لله...؟؟"، فأطرق رأسه ودمعت عيناه، ثم قال:"عبد ذاهب عن نفسه ؛ متصل بذكر ربه ؛ قائم بأداء حقه ؛ ناظر إليه بقلبه ؛ أحرق قلبه أنوار هيبته ؛ وصفًا شرابه من كأس مودته ؛ وانكشف له الحياء من أستار غيبه... فإن تكلم فبالله ؛ وإن نطق فعن الله؛ وإن تحرك فبأمر الله ؛ وإن سكن فمع الله ؛ فهو لله... وبالله... ومع الله".وتابع: "محبة الله أولى بقلب المؤمن اتصالاً كاملاً مراقبًا لكل أعمال العبد وأقواله، محسنا فيما بينه وبين الناس، متمسكًا بما ورد عن القرآن الكريم وسنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، متحققًا من ذلك".كان الإمام الجنيد ـ يرحمه الله ـ يحب أن ينشر ذلك بين الناس ويخالطهم في العبادة وفي الحياة. تخرج على يديه عدد من العلماء الكبار، كلهم درس العلم بين يديه، كأبي محمد عبد الرازي وأبي بكر الواسطي وعمر بن عثمان المكي وغيرهم. ومن سعة عقله أنه كان يرى أن مخاطبة الناس يجب أن تكون على قدر عقولهم، وأن الجواب يكون على قدر السائل لا على قدر المسائل التي تأتي على ألسنتهم.مدرسة ملهمة كان "الجنيد" مدرسة ملهمة في مذهبه يبحث عن روح القرآن والسنة ويقف عند النصوص، بالإضافة إلى الزهد فيما يراه من متاع الدنيا، فكان انتماء أبي القاسم للسلوك الديني الإسلامي سابقًا على انتمائه الصوفي، وهو ما جنبه أحكام التكفير والزندقة التي لحقت بأغلب المتصوفة، وغايته العظمى من التصوف هي التحلي بالأخلاق المحمدية ؛ حرصًا على التسنن الكامل قولاً وفعلاً وحالاً بسيرة رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وفي أجواء هذا التصوف يتعلم الناس المودة والرحمة والصبر. كما أن إشعاعه امتد عبر قرون إلى آفاق القارات، وفي هذا يقول "الجنيد" كما ورد في "حلية الأولياء" لأبي النعيم الأصفهاني: "علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه، لا يقتدى به".وفاته توفى أبو القاسم الجنيد في بغداد سنة 297 للهجرة، ويقال إن الوفاة قد حضرته وهو يتلو القرآن فقيل له لو رفقت بنفسك، فأجاب: "ما أحد أحوج إلى ذلك مني الآن وهذا أوان طي صحيفتي "، ومن فضله وسعة علمه أن بغداد، كما يذكر المؤرخون قد خرجت عن بكرة أبيها يوم وفاته، وأن عدد مشيعي جنازته قد قدر بستين ألفًا وأنه دفن بمقبرة "الشويتيرية" بجوار خاله السقطي السري.