محمود كرم...تعرفُ أنّكَ موجودٌ بِالقدر ذاته من وجودكَ كائناً تعبيريّاً حرَّاً، وتستطيع أنْ تكونَ موجوداً أيضاً، حين تكونُ موجوداً بالقدر ذاته من قدرتكَ على تجاوز ضحالة التعبيرات المقيّدة والمحدودة. فوجودكَ إنساناً وفيّاً لحريّتك في التعبير، يساوي وجودكَ إنساناً قادراً على تجاوز المعيقات والرواسب وانغلاقات التعبيرات الخانقة. ولأنّك موجودٌ عليكَ أنْ تتجاوز دائماً تلك الأبواب المغلقة، التي تسجنكَ عاجزاً في حدود التعبيرات التلقينيّة واليقينيّة.وتعرفُ أنّ وجودك التعبيريّ مرهونٌ بقدرتكَ على البحث عن حريّتك من وراء تلك الأبواب، حيث رحابتك الطَّليقة هناك، تستنطق فيكَ تجربتك التعبيريّة عبر الفسيح من المعنى والفكرة والأسلوب والخَلق. وكم أصبحتَ تعرفُ أنّه ليس عليك وأنتَ تجترح أسلوبكَ التعبيريّ الحر، إلاّ أنْ تتجنّبَ السقوط في سذاجة التعبيرات الخاوية، فدائماً ما تضع المعنى والفكرة والأسلوب على قيد التأمّل والتفكير والنقد، لأنّك تتعالق مع الأشياء، وفقاً لجمالها وتنوّعاتها الفكريّة الثريّة، ووفقاً لانسياباتها الحرَّة في تجاوز الانغلاقات التعبيريّة.وهيَ الأشياء ذاتها التي تتجلّى تعبيراً حرَّاً وطليقاً ومتنوّعاً وثرياً في حضوركَ المستقلّ وفي فكركَ ووعيك، وكم تشعر برفقتها أنّكَ تعيش وقتكَ وحاضركَ، بكلّ متعتكَ الملهمة في الفهم والتعبير والخَلق، وأنّكَ من خلالها لا تزال تستطيع أنْ تعرفَ، أنّ ما أنتَ عليه من حريّة في التعبير، تمنحكَ شعوراً جميلاً بالاستمرار مبدعاً ومتفكّراً ومتفنّناً ومستنطقاً في براحاتها وآفاقها وعوالمها الشاسعة.وقدرتكَ على أنْ تملكَ تعبيركَ بحريّة، يعني في المقابل قدرتكَ على أنْ تملكَ من الحقيقة شجاعة المعرفة وبصيرة الانفتاح. بمعنى آخر، كلّما كنت حرَّاً في تعبيرك، كنتَ جميلاً وحقيقيّاً في فلسفاتك المعرفيّة. فالحريّة في التعبير، تعادل تماماً وعيكَ في تبنّي المعرفيّات الإنسانيّة الخلاّقة والمسؤولة.وحريّتك هنا تستدعي بِالضرورة المعرفة الحرَّة، لأنّك تستقصد المعنى الذي يبعثكَ منفتحاً في تبصَّراتك الواعية، وتعرفُ من خلالها أنّ شجاعة المعرفة وبصيرة الانفتاح، يتوقّفان على ما تملكه من مساحة كبيرة في قدرتك على التعبير الحر، فمنتهى الجمال أنْ ترى في حقيقتك هذهِ جوهر الحريّة.الجوهر الذي يدفعك إلى أنْ تجد دائماً في هذه الحقيقة أصل الإنسان، من حيث كونهِ يبقى أبداً يكتسب المعرفة والانفتاح، إدراكاً ووعياً منه بحقّهِ الإنسانيّ في التعبير والرأي.وحتّى لو نظرنا إلى الميثيولوجيات الإنسانيّة في التاريخ التعبيريّ للإنسان، نرى إنها كانت تتقصَّد الخروج الحر من العالم الواقعيّ المحدود، إلى رحابة العالم التخيّليّ بكلّ تنوّعاته ومستوياته التعبيريّة، ذلك لأنّ الإنسان عادةً ما يسعى إلى ترسيخ التوافق الرمزيّ بين الواقعيّ والمتخيّل، عبر تعبيراته الحرَّة في كل أشكال الفنون الكتابيّة، وحتّى الشفاهيّة أيضاً، خروجاً حرَّاً منه، إلى عالم الفنون التعبيريّة، وقد استعان دائماً بقدرته الفنيّة التعبيريّة الحرَّة تلك، في بناء تجربتهِ الميثيولوجية الفلسفيّة والأدبية والفكريّة، ودائماً ما كان ذلك في تجلّياته وتفنّناتهِ التعبيريّة، يعكس توقه الشديد إلى اقتناص الفكرة والمعنى والأسلوب، من شغفهِ الدائم بالإبداع والخَلق في مخاض التعبيرات الحرَّة.وفي تعبيراتكَ الحرَّة عن كلّ ما يلامس حقيقة ذاتكَ التفكيريّة والإبداعية، تعرفُ أنّ مَن يأتي مفعماً بالأفكار والتجلّيات والدهشات، يأتي في الوقتِ ذاته، حرَّاً بِجرأة التفتّحات المعرفيّة الخلاّقة.ذلك لأنّ الإنسان التعبيريّ، دائماً ما يرى في الحياة وفي تصوّرات الوجود، شيئاً ما في أعماقه وفي تفكّراته ونظراته، يدفعه إلى ابتكار حريّته التعبيريّة، سعياً جادَّاً نحو تحقيق ذاته في انشغالات الفهم والمعرفة. وبِقدر حاجتهِ إلى تطوير ذاته تعبيراً وفهماً واستنطاقاً وإبداعاً، يثمّنُ في المقابل حاجته الدائمة إلى ابتكار حريّته في التعبير.فقيمة التعبير هنا، تعادل تماماً ما في قيمة الابتكار من الخَلق والإبداع والتغيير، إنّه اكتشافه المتجدد لرغبتهِ التعبيريّة في أنْ يتعالق مع الأشياء توافقاً وتكاملاً وتفنّناً واتساعاً على نحو مختلفٍ وملهم.وما تملكهُ في تعبيركَ من حريّة السؤال والخَلق، تملكهُ في حبّكَ واحساسك، وفي عقلك للأشياء التي تلهمكَ من أهميّتها المعرفيّة والفلسفية، ما تمنح ذاتكَ حقيقتها في ممارسة تكوينها الثقافيّ بكثيرٍ من التدريب والتعلّم. فثقافة التعبير الحرّ تقوم أساساً على فعل التدريب الذهنيّ، لأنّها ثقافة ذاتيّة تتعالق بوعيّ مع حقّ الإنسان في الاعتقاد والرأيّ والأسلوب.وهي الثقافة ذاتها التي تستطيع أنْ تكونَ للذات المعبّرة ملاذاً حقيقيّاً، تنجيها من رداءة التعبيرات القامعة، ومن استبداد التفسيرات التعبيريّة الشائعة والمكرورة. وكلّما ذهبتَ بعيداً في تعبيراتك الحرَّة، اكتشفتَ الطريقَ إلى وجودك في فسحة المعاني والافهامات.والسَّاعونَ دائماً إلى تعبيراتهم الحرَّة، يجنونَ دائماً حصاد حريّاتهم في تنوّعات الآراء، وفي ثراء الأفكار، وفي بدائع المعاني،لأنّهم مخلصون جداً لحريّتهم في تناول حياتهم وأسلوبهم، بما يجعلهم قريبينَ تماماً من وجودهم على قيد التأمّل والتفكير والنقد والسؤال.فجمال التعبير في وعيهم، يعني أنْ يملكَ الإنسان من الخَلقِ جمالاً في وعـــــيّ البصيرة، وأنْ يملكَ من شهوة الخَلق تعبيراً في أفق الحريّة، إنّهم يعودون في كلّ مرَّةٍ إلى حريّاتهم، ممتلئينَ بتوقهم الشديد إلى أجمل ما يبعثهــم أحياءً وسعداءً في أسلوبهم وطريقتهم التعبيريّة الحرَّة.كاتب كويتي
[email protected]