محمد الفوزانيقول الدكتور محمد خاني: في أحد الأيام كنت في سيارتي، وإذ جاء شاب في السادسة عشرة من عمره وقال: هل أنظف لك الزجاج الأمامي للسيارة؟قلت: نعم.فنظفه بشكل رائع، فأعطيته 20 دولاراً، فتعجب الشاب وسألني: هل أنت عائد من أميركا؟أجبت: نعمفقال:هل يمكنني أن أسألك عن جامعاتها بدل أجرة التنظيف؟ كان مؤدباً لدرجة اضطررت معها أن أدعوه إلى جانبي لنتحدث. فسألته: كم عمرك؟قال: 16 سنةفي الثانية المتوسطة؟ بل أتممت السادسة الإعدادية.وكيف ذلك؟لأنهم قدموني سنوات عدة من أجل تفوقي وعلاماتي الممتازة في جميع المواد.فلماذا تعمل هنا؟توفي والدي وأنا في الثانية من عمري، وأمي تعمل طباخة في أحد البيوت، وأنا وأختي نعمل في الخارج، سمعت أن الجامعات الأميركية عندها منح دراسية للطلاب المتفوقين المتقدمين في تحصيلهم الدراسي.وهل هناك من يساعدك؟أنا لا أملك إلا نفسي.دعنا نذهب للأكل.
بشرط أن أنظف لك الزجاج الخلفي للسيارة، فوافقت، وفي المطعم طلب أن يأتوا بطعامه سَفَري لأمه وأخته بدل أن يأكل.لاحظت أن قدرته اللغوية الإنكليزية ممتازة، وأنه ماهر بمعظم ما يهم من الأعمال.اتفقنا أن يأتيني بوثائقه من البيت، وأحاول له ما استطعت. وبعد ستة أشهر حصلت له على القبول، وبعد يومين من ذلك اتصل بي وقال:"إننا في البيت نبكي من الفرح والله".وبعد سنتين نشروا اسمه في مجلة "نيويورك تايمز" كأصغر خبير بالتكنولوجيا الحديثة... سعدنا بذلك أنا وأهلي كثيرا.وأخذت زوجتي الفيزا لأمه وأخته من دون علمنا، وبعد أن رأى هذا الشاب أمه وأخته أمامه في أميركا لم يستطع الكلام ولا حتى البكاء!وفي أحد الأيام كنت أنا وأهلي في البيت إذ رأيناه في الخارج يغسل سيارتي! فعانقته للمفاجأة غير المتوقعة وقلت:ماذا تفعل؟قال: دعني لئلا أنسى نفسي، ماذا كنت من قبل، وماذا صنعت أنت مني!هذا الشاب فلسطيني اسمه فريد عبدالعالي، وهو حاليا أحد أفضل وأشهر الأساتذة في جامعة "هارفارد" الأميركية!الاستثمار في الإنسان هو المشروع الذي لا يخسر.إن أممًا متقدمة، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وتايلند، التي سميت بلدان النمور الآسيوية، كان معظمها أكثر تخلفًا من البلدان العربية في منتصف القرن الماضي، كما أنها تفتقر إلى معظم الثروات الطبيعية تقريبا، خصوصا مصادر الطاقة، رغم ذلك تمكنت، بفضل الاستثمار في الرأسمال البشري، خصوصًا بواسطة استحداث قدرات جيل جديد من أبنائها، خضع لتعليمٍ مكثف ومتقدم؛ تمكنت من بناء صناعة عصرية متقدمة، بل أصبحت تنافس أكبر الدول الغربية تقدمًا.فسنغافورة مثلاً لا تمتلك أي موارد طبيعية، ومع ذلك تشير نتائج الدراسات المقارنة إلى أن خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة عقود، أصبح معدل نمو الإنتاجية الكلية لعناصر الإنتاج هي الأعلى في العالم، تليها تايلاند ثم ماليزيا.لقد حاربت هذه الدول الفساد واستثمرت في بناء الإنسان، إذاً لنستثمر في الإنسان، فهو أنجح استثمار، وهو المشروع الوحيد الذي لا يمكن أن يخسر...فقط لنجرب ما نجح به غيرنا.
[email protected]