الحكومة لا تملك برنامجاً حقيقياً للإصلاح المالي في ظل التصريحات المتعارضةفاتورة الرواتب الحكومية والانفاق على الدعوم بريئة من عجوزات الموازنةالادارة الاقتصادية لم تنجح خلال سنوات ازدهارالنفط في معالجة خلل الدخلغياب التخطيط وتنمية الموارد والتشريعات المحفزة للاستثمار وراء الاخفاقعرضت وزارة المالية مؤخرا الملامح الرئيسية لمشروع قانون الميزانية العامة للدولة للسنة المالية 2021/2020، والذي تضمن عجزا تقديريا بنحو 7.7 مليار دينار قبل استقطاع مخصصات الأجيال القادمة، ونحو 9.2 مليار دينار بعد الاستقطاع. وفي سياق الحلول المقترحة لهذا العجز أشارت وزيرة المالية إلى ضرورة إعادة النظر في رواتب موظفي القطاع الحكومي. وقد أثار تصريحها هذا ردود فعل ساخطة من جانب عدد من النواب وكتاب الأعمدة الصحفية ووسائل التواصل الاجتماعي، وشرائح مجتمعية كثيرة. وأعقب ذلك تراجع وزيرة المالية عن مضمون هذا التصريح، بل وتأكيدها بعدم وجود نية لدى الحكومة للمساس بالدعوم وأن ما قصدته بالنظر في الرواتب إنما يتعلق بالبديل الستراتيجي الذي سيترتب على تطبيقه زيادة رواتب موظفين في القطاع الحكومي بنحو 30%. وقد رافق تراجع الوزيرة عن تصريحاتها، قيامها بإطلاق وعود لا تتطابق مع برنامج العمل الحكومي الذي نص على " ضبط الانفاق الجاري؛ وذلك بالحد من التوسع في المصروفات، وضمان وصول الدعم إلى مستحقيه". وتدل هذه التصريحات المتعارضة على أن الحكومة لا تملك برنامجا حقيقيا وشفافا للإصلاح المالي، وأن المسئولين الحكوميين، وعلى أعلى المستويات، ما زالوا يطرحون حلولا ارتجالية غير واقعية وغير مدروسة. العجز التقديريإن العجز التقديري المعلن في برنامج العمل الحكومي ما هو إلا محصلة طبيعية لتجاوز حجم الإنفاق العام التقديري وهو 22.5 مليار دينار لحجم الإيرادات العامة التقديرية وهي 14.8 مليار دينار. وقد ساد لغط كبير كما هي العادة بعد كل إعلان عن عجز تقديري في مشروع جديد للميزانية العامة، حيث جادل البعض بعدم وجود عجز فعلي في الميزانية العامة في حالة إضافة عوائد الصندوقين السياديين (الاحتياطي العام وصندوق الأجيال القادمة) إلى الإيرادات. علما بأن صندوق النقد الدولي كان قد قدر فائض الحساب الختامي للسنة المالية السابقة بعد إضافة تلك العوائد بنحو 5.3 مليار دينار. ولابد من التأكيد في هذا الصدد بأن هذا الفائض سيتحول إلى عجز فعلي خلال سنوات قليلة قادمة في حالة استمرار الإدارة المالية للدولة على نفس نهجها الحالي في الانفاق العام.إصلاحات هشةوفي الحقيقة فإن الدولة تلجأ إلى تغطية العجز الفعلي للميزانية من السحب من صندوق الاحتياطي العام كما هو الحال في السنوات الخمس الأخيرة، بينما يحظر القانون على الدولة إضافة عوائد صندوق الأجيال القادمة وهو الصندوق السيادي الأكبر إلى الإيرادات العامة أو استخدام هذه العوائد في تمويل العجز، حيث نص المرسوم بقانون رقم 106 لسنة 1976 بشأن إنشاء احتياطي الأجيال القادمة على إضافة عوائد استثماراته إلى رصيده، إذ أن الهدف من إنشاء الصندوق هو تأمين مستقبل الأجيال القادمة. أسباب العجزاكدت الجمعية الاقتصادية أن الأسباب الرئيسية وراء هذا العجز المتكرر في الميزانية العامة لدولة الكويت لا تكمن في تضخم فاتورة الرواتب، ولا في الانفاق المتزايد على الدعوم، بل هي نتيجة حتمية لضعف الادارة الاقتصادية الحكومية التي عجزت على مدى سنوات طويلة من عمر النفط عن معالجة الخلل الهيكلي المتمثل في اعتماد الاقتصاد الكويتي على مورد وحيد للدخل، والتي عجزت عن تفعيل خطط جادة للتنويع الاقتصادي، وعن تنمية مصادر إيرادات إضافية، وعن سن تشريعات محفزة ومشجعة للاستثمار، وعن تبني سياسات دعم المنتجين الأكفاء ومحاسبة المقصرين. كما أن عجز الميزانية ناتج عن استمرار النهج الخاطئ في إعداد تقديراتها إذ تترك الإدارة المالية للجهات الحكومية تقدير احتياجاتها من النفقات وفق نص المادة 5 من القانون رقم 31 لسنة 1978 بشأن قواعد إعداد الميزانيات العامة، بينما تتجاهل نص المادة 2 من نفس القانون التي تشترط مراعاة الميزانية لمتطلبات خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وعجز الميزانية ناتج أيضا عن استمرار الهدر في الانفاق العام خصوصا في المشاريع الكبرى وعقود الصيانة والأوامر التغييرية ومخصصات اللجان الصورية وحسابات العهد، وكانت الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية قد قدرت هذا الهدر في دراسة سابقة عرضتها على ملتقى الكويت للاستثمار الذي عقد في 20 / 3/ 2018 بنسبة 40% من الإنفاق الحكومي، ورغم مرور ما يقارب السنتين على هذه الدراسة لم نلمس أي مبادرات أو إجراءات فعلية من جانب الحكومة تهدف إلى وقف هذا الهدر، أو الحد منه. وبدلا من أن تعلن الوزيرة في مواجهة هذا العجز عن بذل كافة الجهود الممكنة من أجل معالجة أسبابه الحقيقية، وبدلا من أن تعلن التزامها ببرنامج إصلاح مالي حقيقي، نجدها تؤكد بأن "الحكومة ستُحارب" من أجل انتزاع موافقة مجلس الأمة على قانون الدين العام، الذي يهدف إلى تمويل العجز عن طريق الاستدانة من الخارج. اللجوء للاستدانةواكدت الجمعية الاقتصادية قلقها البالغ من اللجوء مجددا إلى الدين العام الخارجي بوصفه ملاذا سهلا في ظل الملاءة المالية العالية التي تتمتع بها الكويت، إذ أن من شأن مثل هذا التوجه أن يزيد من تقاعس الإدارة العامة عن السير باتجاه إصلاح اقتصادي حقيقي ينقذ الكويت من مأزق اعتماد مستقبلها على أسواق النفط الدولية المتقلبة وغير المضمونة في الأمد البعيد. إن عجز الميزانية المتكرر، يكشف عجز الحكومة عن التصدي لملفات الهدر والفساد، كما يكشف عجز الإدارة الاقتصادية وعدم قدرتها على تنفيذ إصلاح مالي واقتصادي حقيقي. وقد سبق للجمعية الاقتصادية الكويتية أن قدمت إلى متخذي القرار في الحكومة العشرات من التوصيات الهادفة إلى معالجة ضعف الإدارة الاقتصادية والتصدي لمسببات العجز في الميزانية، إلا أنها لم تلمس صدى يذكر لمثل هذه التوصيات. علما بأن صندوق النقد الدولي قد قدر الفائض في الحساب الختامي عن السنة المالية لعام 2018 - 2019 بنحو 5.3 مليار دينار بعد إضافة هذه العوائد. ولابد من التأكيد في هذا الصدد بأنه في حالة استمرار الإدارة المالية للدولة على نفس نهج الانفاق العام المتبع حاليا، فإن هذا الفائض المقدر من قبل الصندوق سيتحول إلى عجز خلال السنوات القليلة القادمة.وتجدد الجمعية الاقتصادية عبر هذا البيان دعوتها إلى الحكومة، قبل فوات الأوان، للالتزام ببرنامج إصلاح مالي واقتصادي حقيقي يرتكز بشكل رئيسي على الإصلاح الإداري والمؤسسي، وزيادة حجم الانفاق الاستثماري، وإطلاق الحوافز الكفيلة بتفعيل دور القطاع الخاص من خلال تبني سياسة استثمار وطنية للمساهمة في خلق اقتصاد متنوع ومستدام والحرص على عدم المساس بمكتسبات ورفاهية الأسر الكويتية.