الاقتصادية
الجنيه الإسترليني بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
الثلاثاء 27 أغسطس 2019
5
السياسة
استيقظ العالم يوم الجمعة 24 يونيو 2016 على أنباء الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي اعتبره المراقبون زلزالا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عنيفا تتعدى آثاره حدود بلدان الاتحاد الأوروبي إلى دول العالم أجمع، حيث تعد بريطانيا وكذلك الاتحاد الأوروبي من أكبر الشركاء التجاريين والاقتصاديين للعديد من هذه الدول، كان من مظاهر هذا الزلزال هزة عنيفة في الأسواق العالمية، حيث تسبب في تراجع سعر الجنيه الإسترليني أمام الدولار والعملات الأخرى، فقد تراجع بنحو 10% أمام الدولار، وهو أكبر تراجع تسجله عملة دولية في يوم واحد.وتُعد التداعيات الاقتصادية لخروج بريطانيا هي الأيسر تناولا من بين كل التغيرات التي طرأت على المجتمع البريطاني، فمنذ الاستفتاء، في 23 يونيو 2016، دخل الاقتصاد في حالة من الاضطراب، الأمر الذي أدى إلى سحب المستثمرين الأجانب والشركات استثماراتهم من البلاد، وتراجعت التجارة نتيجة لذلك، ما تسبب في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بشكل سنوي، وانخفاض مستوى الإنفاق العام، فضلا عن نقص ثقة المستهلك، واستمرار تدني الأجور، وتقلُّب أسعار العقارات.ومن أخطر هذه التداعيات انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني، حيث أخذ في الانخفاض بوتيرة بطيئة على مدار ثلاث سنوات مقارنة بالعملات الرئيسية الأخرى مثل الدولار الأميركي واليورو، ما أسهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية.ويُؤكد الكثيرون أنه بمجرد إتمام خروج بريطانيا ستسوء الأوضاع فيها بشكل كبير، خصوصا في حالة خروجها بدون اتفاق، بينما تُشير الآراء الأكثر تفاؤلا إلى أن انخفاض قيمة الجنيه ستجذب المستثمرين الأجانب بنسبة كبيرة إلى البلاد على المدى البعيد. وينظر هذا المقال في هذه الآراء المختلفة، لاسيما الرأي القائل بأن خروج بريطانيا بدون اتفاق سيدفع إلى المزيد من التدهور، وهو الاتجاه الأكثر ترجيحا في ظل وجود بوريس جونسون رئيسا للوزراء، لذا يُعد تفاؤل البعض بهذا الشأن أمرا واهيا.مؤشرات خروج بريطانيا ومن المؤشرات الداعمة لخروج بريطانيابدون اتفاق تصريح بوريس جونسون "أنبريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي بغض النظر عن إبرامها اتفاقا أم لا في 31 أكتوبر، مهماكانت الظروف"، وأضاف: "يجب أن نستعيد الثقة في ممارستنا للديمقراطية، والإيفاء بوعود البرلمان للشعب بإتمام الخروج من الاتحاد في 31 أكتوبر".ويبدو أن التوصل إلى اتفاق في غضون هذه المدة القصيرة، على الرغم من إبداء جونسون رغبته في ذلك، احتمال غير واقعي. خصوصا مع تصريح جونسون: أنه لن يتفاوض مع الاتحاد الأوروبي ما لم يتخل عن الإجراءات التي يتم من خلالها التمهيد لفرض حدود صارمة بين ارلندا وارلندا الشمالية البريطانية. وفي هذا الصدد قال دكتور روبن نيبليت، مدير المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتهام هاوس): "إن حديث جونسون بشأن التفاوض على اتفاقية الخروج مع الاتحاد الأوروبي، مجرد مسرحية هزلية"، وإن الاتحاد الأوروبي "يرفض الخضوع لشخص يعتبره الكثيرون شعبويا انتهازيا".وللسيناريو الأكثر ترجيحا، الخروج بدون اتفاق، عواقب وخيمة بالفعل على قيمة الجنيه الإسترليني، حيث انخفض أكثر من 8% منذ شهر مايو، وتداول الجنيه الإسترليني يوم 18 /8 /2019، بقيمة ما يُعادل نحو 1.21 دولار، مسجلا أقل قيمة منذ يناير 2017، وأقل بكثير من القيمة التي وصل إليها قبل استفتاء عام 2016، حين كان يعادل 1.50 دولار.وتوافقت آراء كثير من المحللين الاقتصاديين على أن هذا الخروج سيكون له أثر بالغ على انخفاض قيمة الجنيه، وهو ما يُشير إليه الانخفاض الحالي في المضاربة على قيمته قبل تاريخ الانسحاب في أكتوبر، وبالتالي ستكون العواقب الاقتصادية لذلك كارثية.ففيما يتعلق بالاستثمار والتمويل، يتفق معظم المحللين الاقتصاديين على أن بريطانيا ستخسر الكثير من قوتها كسوق جاذبة، كما تخشى الشركات من أن يؤدي ضعف الجنيه إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، إذا اعتمدوا على الخامات والخدمات المستوردة في عملية الإنتاج.وبالفعل، أدت التكهنات حول ضعف الجنيه إلى قيام مستثمرين دوليين بنقل أموالهم من المملكة المتحدة إلى دول أخرى داخل الاتحاد الأوروبي،مثل سويسرا وألمانيا وهولندا، وإلى هذا ذكر ستيفن هولدن من مؤسسة كوبلي للأبحاث، لصحيفة (ذي إندبندنت): "نشهد تحولا ملحوظا من بريطانيا إلى أوروبا من قبل مديري الصناديق الدوليين"، "إن ضعف الجنيه هو بالتأكيدالعامل الرئيس في انخفاض الأسهم بالمملكة المتحدة، ولكنه يعكس الحذر من خروج بريطانيا أيضا".قطاع الخدمات الماليةوسيكون قطاع الخدمات المالية هو الأكثر تضررا، حيث ستعاني هذه الخدمات من الأضرار التي ستلحق بالجنيه. وسوف تعاني الشركات المالية المتداولة بالجنيه من انخفاض القدرة على التعامل بشكل مربح مع الشركات الأجنبية التي تستخدم عملات بديلة، مثل الدولار واليورو، وسينعكس ذلك على صناعة التمويل في البلاد، لأنها قائمة على الاستثمار الأجنبي الذي يضع ثقته فيالجنيه القوي، ومن المعلوم أن قطاع الخدمات المالية هو الأكثر إسهاما في الناتج المحليالإجمالي البريطاني، ويسبق التصنيع والتشييد والزراعة. وعلى الرغم من ارتفاع المخاطر، فإن بعض الاقتصاديين ومحللي السوق ما زالوا يأملون في إمكانية أن يُساعد تراجع الجنيه على تحفيز صناعة التمويل والاستثمارات الأجنبية في بريطانيا، فيسلط بعض خبراء الاقتصاد في رويترز، الضوء على أن "ضعف الجنيه يجعل من الأرخص للمستثمرين الأجانب الذين يحملون عملات أخرى شراء الأصول البريطانية"، ولكن هذا لم يتحقق بعد، حيث لا يزال الكثيرون حذرين من الاستثمار في بريطانيا نتيجة للاضطراب السياسي الناجم عن خروجها من الاتحاد، ويعتريهم القلق بشكل خاص من أن هذا سيتضاعف في حالة حدوث سيناريو "خروج بريطانيا بدون اتفاق". ولكن ربما من الممكن في الشهور التالية على انسحاب بريطانيا أن تشعر الشركات الأجنبية بالثقة في توجيه المزيد من الاستثمارات إليها، لاستغلال انخفاض سعر الصرف، ما قد يعطي دفعة للقطاعات المالية والصناعية والزراعية والخدمية.بيد أن هذا لا يزال حتى الآن سيناريو افتراضيا، كما أن هذا ينطبق أيضا على الفوائد المحتملة للجنيه المُتراجع على التجارة. ولا جدال في أن هذا كان له تأثير سلبي على الواردات البريطانية برفع كلفة شراء السلع والخدمات من البلدان الأخرى. ونظرا لاعتمادها على الواردات، مع محدودية الناتج الزراعي والصناعي، فقد أضر ذلك بالأعمال التجارية والمستهلكين المحليين على حد سواء من خلال ارتفاع الكلفة والأسعار.ومع ذلك، وعلى نحو متفائل، لاحظت أقلية من الاقتصاديين والمحللين في الأسابيع الأخيرة أنه من الناحية النظرية، سيتم تعويض هذه التكاليف، نظرا لأن الصادرات البريطانية يجب أن تستفيد من تخفيض قيمة العملة، مما سيجعل انخفاض السلع والخدمات المنتجة في بريطانيا أكثر جاذبية للمشترين الأجانب، والقادرين على شراء المزيد منها بكلفة أقل مع عملات أكثر تنافسية مثل اليورو. ويشير تقرير نشرته جامعة كوفنتري في هذا الصدد: "لقد أضحت البضائع البريطانية أرخص في الخارج، بسبب سعر الصرف المُساعد"، "وهو ما يفيد الاقتصاد من خلال تحسين القدرة التنافسية للشركات وزيادة الصادرات".ولكن بالنسبة لمعظم المراقبين، فقد ثبت مغالطة هذا التوقع، فكما يرى كل من جوش دي ليون وسواتي دهينغرا، الباحثين في كلية لندن للاقتصاد: "إن انخفاض الجنيه الإسترليني كان متوقعا من قبل البعض أن يحقق طفرة في الصادرات، وهو ما لم يحدث"، و"بالنسبة لدول مجموعة السبع، لم ترتفع قيمة الصادرات من المملكة المتحدة بشكل أسرع".كما وجدت دراسة أجراها 3 أساتذة جامعيين في صحيفة ذا كونفرزيشن الأميركية، أنه اعتبارا من أكتوبر 2018 تضاءلت الصادرات البريطانية بنسبة 13 % عما كانت عليه قبل إجراء استفتاء خروجها من الاتحاد الأوروبي.وهناك عدد من الأسباب لعدم ظهور أي توقعات بتحسن سوق الصادرات البريطانية، وكذلك تراجع احتمالية حدوثه حال الخروج بدون اتفاق، أهمها: أن السلع والصناعات البريطانية المصدرة والخدمات الأخرى تعتمد في الأساس على الواردات، وبالتالي تكون الأرباح قصيرة الأجل وضئيلة في الوقت ذاته.ونظرا لظهور وانتشار سلاسل التوريد العالمية، بدءا من الشركة المصنِّعة، وصولا إلى التخزين، وحتى النقل، فإن الكثير من المنتجات والخدمات التي تصدرها بريطانيا، مثل السيارات، تعتمد على الكثير من الأجزاء المستوردة من الخارج. ومن جانبه يقول دنكان كونورز: "إن 50 % من صادرات المملكة المتحدة تعتمد على المكونات المستوردة من الدول الخارجية، وهنا سوفتصبح هذه المكونات أكثر كلفة مع انخفاض سعر الجنيه الإسترليني، ولذلك ستكون المكاسب المحققة من نمو الصادرات محدودة"، وبالتالي تتراكم الآثار السلبية المترتبة على ضعف سعر الجنيه الإسترليني على الواردات مما سيلحق ضررا جسيما بقيمة السلع البريطانيةالمصدرة.الخسائر الاقتصادية وإجمالا يمكن القول: إن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن ضعف الجنيه الإسترليني، حتى الآن، سوف تستمر على الأرجح في التفوق على كم الفوائد المحتملة لهذا التراجع. وهناك تأثير آخر لضعف الجنيه يجب وضعه في الاعتبار، وهو خارج نطاق العواقب الاقتصادية والمالية المباشرة، ألا وهو التأثير السياسي لهذا التراجع، حيث كانت تتم الإشادة بقوة الجنيه الإسترليني من قبل السياسيين البريطانيين في جميع أنحاء الفضاء السياسي في البلاد كرمز لقوة الدولة ومكانتها الدولية المرموقة على مدى سنوات طويلة.وفي هذا الخصوص يُسلط المراسل الاقتصادي لصحيفة "نيويورك تايمز" بيتر جودمان، الضوء على هذه القضية بقوله: كان الجنيه البريطاني يمتلك منذ فترة طويلة دورا مهما في الاقتصاد الدولي، ولا يخفى مدى قوته منذ عصر الامبراطورية البريطانية، لكن في الآونة الأخيرة تحولت العملة إلى علامة تشير إلى تضاؤل حظوظ بريطانيا ووهن قوتها في الوقت الحاضر مع خروجها من الاتحاد الأوروبي.وبالتالي يبدو أن بريطانيا ليس لديها الكثير للشعور بالغبطة والسرور فيما يتعلق بالتراجع السريع في قيمة الجنيه الإسترليني قبل خروجها من الاتحاد الأوروبي، والذي سيستمر حتما عند انسحابها فعليا. ومع احتمالية الخروج بدوناتفاق في ظل حكومة بوريس جونسون، يبدو الحديث عن تعزيز تراجع الجنيه للصادرات البريطانية وتوفير عوائد لقطاع التمويل والمستثمرين الأجانب، في غير محله، وغير ذي صلة في الوقت ذاته.ونختم بالقول إن من الواضح أن هبوط الجنيه الإسترليني سيلحق ضررا - بلا شك - بمكانة بريطانيا الاقتصادية والسياسية في أعقاب خروجها من الاتحاد الأوروبي.رئيس مركز الخليج للدراسات الستراتيجية