محمد الفوزانرغم الفرح كان على الحاج أن يودّع أهله، ويكتب وصيته، فلربما لن يعود، ولن يعرفوا مثواه.تلك المعاناة دوّنها عدد من الرحّالة، منهم الأندلسي ابن جبير البلنسي الذي جاء حاجًا في زمن صلاح الدين الأيوبي سنة 579 هـجرية (1183ميلادية)، ورأى بنفسه ما كان يلقاه الحجاج من سكان ميناء "عيذاب"، وهم من البجاة السودان، ساكني الجبال، فيستأجر الحجاج منهم الجمال، ويسلكون بهم الصحراء المصرية الشرقية القاحلة، فيصبح الحاج معهم كالأسير!يقول:" فربما ذهب أكثرهم عطشًا وحصلوا (أي الجمّالين) على ما يُخلّفه من نفقة أو سواها"، بل إن الذين يؤثرون أن يعبروا الصحراء الشرقية للوصول إلى ميناء "عيذاب" على الحدود المصرية- السودانية اليوم، كانوا يصلون في صورة مروّعة من الجوع والعطش، ويصف ابن جبير بعضهم "كأنه منَشر من كفن، شاهدنا منهم مُدّة مقامنا أقوامًا قد وصلوا على هذه الصفة في مناظرهم المستحيلة، وهيئاتهم المتغيرة آيةً للمتوسّمين".لم تقف معاناة الحجاج في العصر الوسيط عند ذلك الحد من قسوة الجمّالين وغلظتهم، وإنما كان البحر مهلكة كما البر، وكما كان البُجاة السودان المتحكمون في رقاب حجاج مصر والمغرب في الصحراء، كان أصحاب المراكب والسفن في ميناء "عيذاب" بعضهم يتحكمون في رقاب الحجيج في البحر، فقد كانوا يكدسونهم في المراكب تكديسا طلبا للربح السريع والوفير على حساب أرواح هؤلاء البؤساء.يقول ابن جبير في ذلك:"ولأهل "عيذاب" في الحُجّاج أحكام الطواغيت، وذلك أنهم يشحنون بهم الجلاب (المراكب) حتى يجلس بعضهم على بعض، وتعود بهم كأنها أقفاص الدجاج المملوءة، يحمل أهلها على ذلك الحرص والرغبة في الكراء حتى يستوفي صاحب الجلبة منهم ثمنها في طريق واحدة". فوق ذلك، وحين يمر الحجاج إلى العدوة الأخرى من البحر الأحمر، كانت السلطات في مكة، وحتى زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي، تفرض على الحجّاج القادمين من المغرب خصوصا ضريبة مرهقة، ومن لم يكن يدفع هذه الفريضة لم يكن يُسمح له بالمرور والحج، يقول أبو شامة في تاريخه:" كان الرسم بمكة أن يؤخذ من حجاج المغرب على عدد الرؤوس، بما ينسب إلى الضرائب والمكوس، ومن دخل منهم ولم يفعل ذلك حُبس (مُنع) حتى يفوته الوقوف بعرفة، ولو كان فقيرا لا يملك شيئا".وبعد معاناة استمرت عشرات السنين بفرض هذه الضريبة على الحجاج، ومعاناة الفقراء منهم "رأى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب إسقاط ذلك، ويعوض عنه أمير مكة، فقرّر معه أن يحمل إليه في كل عام مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح إلى ساحل جدة، ووقف على ذلك وقوفا، وخلّد بها إلى قيام الساعة معروفا، فانبسط لذلك النفوس، وزاد السرور، وزال البؤس، وصار يرسل أيضا للمجاورين بالحرمين من الفقهاء والشرفاء"بلغت صعوبة الحج، وخطورة الطريق أن بعض علماء المغرب وشنقيط كانوا يفتون بإسقاط تلك الفريضة، وحتى زمن متأخر من نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. يقول محمد ألمامي الشنقيطي:"إن فريضة الحج ساقطة لأسباب عديدة في تلك المدة عن أكثر الشناقطة"، ويفصّل ألمامي هذه الأسباب في قوله إن:"قيل كيف يسقط شيء جماعي بمفسدة، قلت الحج جماعي الوجوب وأسقطه كثير من العلماء للمخاطرة بالنفوس على أهل المغرب، وأجمع المحققون ممن حج من علماء المغاربة والمصريين أن السفر في هذا الزمان للحج لا يجوز لا لضرورة ولا لغيره، وذلك لما يقع من تضييع الصلوات الخمس، والمخاطرة بالنفس والأموال والفروج والله أعلم".إمام وخطيب
[email protected]