الأحد 03 أغسطس 2025
39°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأخيرة

الدنيا دوّارة فاحذر منها

Time
الأربعاء 17 مارس 2021
السياسة
محمد الفوزان

الحاج علي بن عوض بن جريبيع النعيمي، من بلدة بسطة، إحدى قرى النعيم، في محافظة معان جنوب الأردن، كان هذا الرجل معروفاً لدى الناس بالطيب والتقوى والورع والكرم والسماحة والرجولة.
في يوم من الأيام، وبينما كان يتجوَّل في مدينة الزرقاء لشراء بعض الحاجات في أواخر خمسينات القرن الماضي وأثناء مروره في سوق الصباغة، أصابه عطش شديد، فرأى أمام أحد المحال زيراً ما (بُرْمة أو حِبْ) فأراد أن يشرب منه، وعندما تناول الوعاء الموضوع على الزير وهمَّ بغرف الماء، جاء صاحب المحل وسحب الوعاء من يده بعصبية وقال له: "شايفني فاتحها سبيل لك ولأشكالك، روح مع السلامة ما في عندي ماء لك"، فترك الحاج الوعاء وقال: "جزاك الله خيراً"، وانصرف من دون أن يبلّ ريقه بجغمة ماء.
تمرُّ الأيام، وبعد 20 عاماً من تلك الحادثة، وبينما كان الحاج علي نفسه يتجوَّل في سوق البدو في مدينة معان استوقفه رجلٌ غريبٌ وقال له: لو سمحت أنا رجل صبّاغ من مناطق الشمال وابحث عن أصحاب الأغنام الذين يُريدون صبغ الصوف، لكني لا أعرف أحداً في هذه المنطقة".
وعندما دقَّق الحاج علي في وجه الرجل، وإذا به نفسه الذي منعه من شرب الماء قبل 20عاماً، فقال له: "تعال معي إلى بيتي في بلدة بسطة، وسأدلُّك على أصحاب الأغنام"، فذهب الرجل معه، وبعد أن قام بواجبه وإكرامه قال له: "أنت ضيفي حتى تنتهي من كامل عملك في هذه المنطقة"، فوافق الصباغ، وبقي عند الحاج علي 25 يوماً، يذهب في النهار ويصبغ عند الناس ويعود ليلاً يأكل ويشرب وينام في بيت الحاج.
وعندما أنهى عمله وأراد العودة إلى مدينة الزرقاء، قال للحاج علي: "يا أبا عبدالله، لقد استضفتني وأكرمتني في بيتك طول هذه المدة، وسهلت مهمتي لذلك لن أتحرك من هنا إلا بعد أن تعاهدني بالله أن تزورني في أقرب وقت أنت وأولادك لأنّ ما قدمته لي من خدمة ومعروف لا ينسى، وهو ديْن في رقبتي ورقبة أولادي وأحفادي إلى يوم القيامة".
فقال له الحاج: "توكل على الله يابن الحلال، لم نفعل شيء! وما قدمناه هو حق الضيافة فقط".
أصر الرجل وألحّ على الحاج أن يأخذ عنوان محله، ويزوره في القريب العاجل. فقال الحاج علي: "أنا أعرف محلك جيداً"! فوصف للصباغ محله، فقال: "نعم هذا هو محلي، ولكن كيف عرفته؟"، حينها تبسم الحاج وقال: "لقد جئتك في محلك وقمت معي أنت بالواجب".
قال الرجل: "أين؟ ومتى؟ فأنا لا أذكر أنك جئتني أو التقيت بك من قبل".
فقال الحاج: "بل التقينا، ألا تذكر ذاك البدوي الذي منعته من شرب الماء وسحبت الوعاء من يده، وقلت له: ماني فاتحها سبيل لك ولأشكالك، وشححت عليه بشربة ماء، فذاك هو أنا ذاك البدوي بشحمه ولحمه".
عندها صعق الرجل وضرب بكلتا يديه على رأسه وجثا على ركبتيه وصاح: "يا إلهي يا إلهي، أمعقول هذا؟ مستحيل يا رجل، أتستضيف في بيتك رجلاً بخل عليك بجغمة ماء وتبقيه عندك لمدة 25 يوما من دون كلل وملل وبكل رحابة صدر؟".
فقال الحاج علي: "توكل على الله يا بن أخي، فنحن لم نتعود ان نقابل الاساءة بالاساءة"، فجعل الصباغ يبكي ويقبل يد الحاج علي ويقول له: "سامحني يا عم"، فقال له الحاج: "أنا مسامحك، بس اعلم يا بن أخي أن الدنيا دوّارة، يوم لك ويوم عليك، وأنه لا بد للإنسان أن يحتاج إلى أخيه الانسان ولو بعد حين، الناس للناس والكل بالله".
قال تعالى: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، الأغنياء يصبحون فقراء، والفقراء يصبحون أغنياء، وضعفاء الأمس أقوياء اليوم، وحكّام الأمس مشرّدو اليوم، والغالبون مغلوبون، والفلك دوار، والحياة لا تقف، والحوادث لا تكف عن الجريان، والناس يتبادلون الكراسي، ولا حزن يستمر، ولا فرح يدوم، ولله در أبي الفتح البستي، رحمه الله، حين قال:
"لا تحسبنَّ سروراً دائماً أبداً
مَنْ سَرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ"

إمام وخطيب
[email protected]
آخر الأخبار