الجمعة 20 سبتمبر 2024
31°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الرباط الفلسطيني في أكناف بيت المقدس
play icon
الأخيرة   /   كل الآراء

الرباط الفلسطيني في أكناف بيت المقدس

Time
الأربعاء 18 أكتوبر 2023
View
1996
محمد الفوزان

قصص إسلامية

يحكي أحد الإخوة الفلسطينيين قصة عجيبة يقول: حضرتُ دعوة عشاء، فإذا من المدعوين استاذ جامعة تركي، وعندما تعرف عليَّ، وعرف أني فلسطيني، قال: نحن الاتراك نحب الفلسطينيين وفلسطين جداً، ونعتبرها عقيدة لانهم اهل البلاد المباركة، ولانهم لم يخونوا الدولة العثمانية لآخر لحظة.
وحتى بعد ان انهزمت الدولة العثمانية آووا الجنود الذين بقوا في فلسطين، واطعموهم وساعدوهم جدا، وقال هذه القصة بالعربي فبكى وأبكى الحاضرين.
ثم استرسل فقال: اول ما سُمح لنا بزيارة القدس منذ اكثر من ثلاثين سنة كنت اشعر بعاطفة وحنين شديد لزيارة فلسطين والقدس والاقصى، والتعرف على احوالها واهلها، وحدثت بعض الزملاء برغبتي بذلك، فاتفقنا انا وستة منهم، وثلاثة منّا كانوا يتكلمون العربية جيدا، وسافرنا الى فلسطين، واتفقنا الا نتعامل مع الصهاينة بشيء ابدا، كأن نحتاج مثلاً دورة المياه، يعني عند اقصى واشد حاجة.
وانه يجب ان تكون كل تعاملاتنا فقط مع الفلسطينيين من شراء طعام وايجار فندق ومواصلات، وهدايا، لاننا لانعترف بالصهاينة، ونريد ان نتبارك بالفلسطينيين.
نزلنا في مطار تل ابيب وخرجنا لنبحث عن فلسطيني مقدسي يكون سائقنا ودليلنا طوال الوقت لاكثر من اسبوعين، وصلنا الى موقف سيارات، وبدأنا نتفرس في وجوه السائقين، ووقع بصرنا على سائق جاوز الستين وجهه يشع سماحة ونورا وبشرا، وقبل ان نكلمه ونسأله اتفقنا جميعا على ان يكون سائقنا هذا الرجل الطيب المبارك، ودعونا الله ان يكون مسلماً مقدسياً، فلما سلمنا عليه قال: انه من القدس ومن مواليد القدس، وعاش كل حياته فيها.
فحمدنا الله كثيرا، وعرّفناه على انفسنا وغايتنا، وتعرفنا عليه، ثم سألته عن تكلفة ايجار السيارة، فقال اطمئنوا، الطيبون لا يختلفون، والله ان فرحي بكم عظيم لأنكم من تركيا.
قلت له ونحن كذلك، واستحييت ان اسأله مرة اخرى عن التكلفة واخذنا الى فندق بالقدس، فانزلنا امتعتنا وذهبنا بعد ذلك وصلينا في الاقصى، وهو معنا ونحن نبكي وقلوبنا تنزف ألماً ولوعة وحسرة على الاقصى الأسير الذي دنسه الصهاينة المجرمون.
خرجنا بعد ذلك وبقي معنا يأخذنا الى معالم القدس، رأينا الظلم الشديد الواقع على الفلسطينيين هناك، ورأينا البؤس والعذاب الذي يتعرضون له، ورأينا معها عزة اهل القدس وصمودهم وشموخهم الذي استمدوه من ارضهم المباركة.
طوال الطريق كان يحدثنا ويشرح لنا ويصف لنا المعالم في الاقصى وحول الاقصى، لم يكن سائقا عاديا، كان واعيا ومثقفا ومتوكلا على الله، ومتفائلا لم نسمع منه شكوى اوتذمراً او انكساراً، بل كان يحمد الله كثيرا، ان اكرمه ومنّ عليه وجعله مقدسيًا وفضّله بالرباط.
اعادنا الى الفندق بعد المغرب، وساعدنا بانزال ما اشتريناه من هدايا الى بهو الفندق، سألته: كم تريد ياعمي؟
فقال استغفر الله، بل انت عمي وكلكم اعمامي، اعدت عليه السؤال مرة اخرى كم تريد، فقال لا اريد شيئا لانه مدفوع، قلت كيف ومتى؟ قال مدفوع من زمان وبسخاء كبير.
اصبت بالاستغراب الشديد، اذ للمرة الاولى اشك انني لا افهم العربية جيدا، فسألت أصحابي الذين يعرفون العربية أكثر منّي: هل فهمتم مافهمت؟
قالوا نعم، يقول مدفوع من زمان وبسخاء، قلت مارأيت احدا دفع، هل دفع احد منكم له شيئا؟ قالوا لا، قلت: يرحمك الله من هذا الذي دفع، ومن زمان وبسخاء؟ فانفجر باكيا قال: السلطان عبد الحميد والدولة العثمانية، والله مارأينا خيراً بعدكم.
فانفجرنا جميعاً بالبكاء، وبكى لبكائنا من كان في بهو الفندق، واراد ان يذهب فامسكنا به، ومنعناه واستمررنا ننتحب، ربما عشر دقائق تعصف بنا ذكريات المجد المسلوب والكرامة الضائعة والعزة المهتوكة، واجبرنا انفسنا على السكوت، وقلت له: قبلنا دفع السلطان عبد الحميد والدولة العثمانية اليوم، اما غدا فندفع ان شاء الله، نريد ان تكون عندنا كل يوم الساعة السابعة صباحا نفطر سويا ثم نذهب لنتعرف على الارض المباركة والاهل المباركين، وتبقى معنا الى ما بعد المغرب بقليل.
اتفقنا على ذلك وذهب، ذهبت الى غرفتي، لم يغمض لي جفن تلك الليلة، وانا ابكي حسرة ولوعة وقهرا، وادعو الله ان يساعدنا في تحرير اقصانا ومسرى نبينا، وان يلمّ شمل امتنا واهلنا.
في الصباح علمت ان كلنا لم ينم ليلة امس، طبعا سألنا صاحب الفندق عن ايجار السيارة وكنا ندفع له في نهاية اليوم ونكرمه بزيادة، ونقول له هذه اجرة دليل سياحي فكان يمتنع عن اخذ الزيادة.
عرفنا فيما بعد ان ذلك السائق مدرس لغة عربية، بقي هذا الرجل معنا طوال رحلتنا، تعلمنا منه كثيرا وأحبنا وأحببناه، وبقينا على صلة به بعد عودتنا الى اسطنبول، وكنا نوصي من يذهب لزيارة القدس ان يتواصل مع هذا الرجل المبارك ليطوف به في القدس وحولها، وبقيت علاقتنا به الى ان توفاه الله،ثم ظلت علاقتنا بعد ذلك ببعض ابنائه.
لايزال هناك اناس، بل شعوب بأكملها يعشقون فلسطين والقدس والاقصى والشعب الفلسطيني، امنيتهم تحرير الاقصى وفلسطين، وكذلك هناك شعب فلسطيني بأكمله يدافع ويستميت ويذود عن الاقصى والقدس وفلسطين.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك". قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس"
ففلسطين ياسادة هي قضية المسلمين الأولى، في قلب الضمير المسلم، لن يطيب لنا عيش حتّى يهنأ الشعب الفلسطيني ببلاده حراً كريماً.

محمد الفوزان

[email protected]

آخر الأخبار