إعداد – إسلام مصطفى: يحفل التاريخ العربي بالنوادر، التي قلما يوجد مثلها في أمم أخرى، نظرا لما يتمتع به العرب من خفة ظل، حتى أنهم سخروا الشعر في كثير من هذه المواقف فتحولت بها إلى نادرة، "السياسة" طافت
عبر تاريخ العرب قديمه وحديثه وقطفت بعض هذه النوادر لتقدمها للقارئ حتى ترسم على ملامحه البسمات.قال الشعراء في الفقر ما قالوا، ومعظمهم أجمع على أن الفقر ما هو إلا فقر النفس، وأن الغِنى غِنى النفس أيضًا، وقد يكون ما قالوه صوابًا، إلا أنهم لم يذوقوا وجع الحاجة ومد الأيدي إلى الآخرين، وردها خائبة، ورغم المواجع التي عاشها كل أعرابي فقير، إلا أنهم كانوا يواجهون ذلك بالفكاهة والحيل، التي كانت تنجح في التخلص من الفقر في أحيان كثيرة، مثلما حدث مع أعرابي في زمن الأمويين، ففي أحد الأيام شديدة البرد، كان القائد الأموي خالد القسري عائدًا وجيشه إلى ديارهم، وتعرض لهم رجل في الطريق، يبدو عليه علامات الحاجة والفقر. نظر إلى القائد نظرة استعطاف، وقال له: ناشدتك الله أن تضرب عنقي ! فنظر إليه القسري باستنكار، وسأله: أكفرت بعد إيمانك ؟ أجابه سريعًا: لا. فقال له: أفترغب عن طاعة الرحمن؟ قال: لا. دبت الحيرة في قلب القائد الأموي، وعاد وسأل الرجل: أفقتلت نفسًا؟ قال: لا، ولما نفدت كل تخمينات القسري، قال له: إذًا ما سبب ذلك؟ فحنى الرجل رأسه من شدة حمله، وقال له: إن خصما لحوح في طلبه ولا يتركني أبدًا، بل علق بي ولزمني وقهرني، قال له: من هو؟ فأجابه الرجل، والدموع تملأ عينيه: الفقر. فلما رأى القسري حاله هذه، قال له: كم يكفيك لدفعه؟ ذهبت الدموع من عيني الرجل وحلت محلها نظرة سعادة، وقال له: أربعة آلاف درهم، فقال له: إني سأعطيك الأربعة آلاف درهم. ونادى خالد على أحد غلمانه، وقال له: يا غلام ادفع أربعة آلاف درهم، والتفت القسري إلى موكبه، وقال لهم بصوت جهوري: هل ربح أحد من التجار كربحي اليوم؟ اندهش كل من بالموكب من سؤاله، وقالوا له: كيف ذلك ؟ قال: عزمت على أن أعطي لهذا الرجل ثلاثين ألف درهم، فلماَ طلب أربعة آلاف وفّر عليّ ستة وعشرين ألف درهم. سمع الأعرابي الحديث، وقرر أن يستخدم ذكاءه بخفة ظل وطرافة، وقال لخالد: حاشاك وأعيذك بالله أن تربح على عبد فقير مسكين، فقال: يا غلام اعطه ثلاثين ألفًا، والتفت للرجل وقال له: اقبض المال، واذهب آمنا إلى خصمك، ومتى رجع يعارضك استنجد بنا عليه.ومن هذه النوادر أيضا أن إعرابيا أتى إلى الخليفة سليمان بن عبد الملك، وقال له وجسده يرتعد: حلفتك بالذي أعطاك كل هذه النعم من غير شفيع كان لك إليه فضل من عنده عليك، انجدني من عدوي، وخذ لي حقي منه فإنه لم يمض يوم ولا ليلة إلا ظلمني وقهرني، لا كبير يستحيي منه ولا يلتفت إلى صغير، فأرسل سليمان إلى الأعرابي نظرة تطمئنه، وقال له: أخبرني من هو؟ فإما أن ينصفك، وإلا أخذت الذي في عينيه، من هو؟ نظر الأعرابي الفقير إلى الأرض، وانتقلت الرعشة من جسده إلى صوته، وقال له: الفقر. فنظر سليمان هو الآخر إلى الأرض وأطال في ذلك، وأخذ يضرب في الأرض بأصبعه وأحدث بها ثقوبًا من شدة تأثره. وعندما رفع رأسه أمر للأعرابي بعشرة آلاف دينار، ملأ الفرح قلب الرجل وأخذ الدنانير ومضى، وأنساه الفرح أن يشكر سليمان، ولما خرج من القصر، نادي على حراسه وقال لهم: ردوه، خفق قلب الأعرابي واعتقد أنه رجع في أمره، يريد أن يسترد دنانيره، ولكن حدث ما لم يكن يتوقعه عندما وقف بين يدي سليمان، فقال له: يا ذا الرجل، سألتك بالله متى أتاك خصمك متعسفًا، أن تأتي إلينا متظلمًا.