الشعراوي قال لها "لو علمت أنك من تنادين لجئتك رأساً"القاهرة - أمل زيادة:بريق الشهرة والأضواء رئة يتنفس بها الفنانون، لذا يضحون بالكثير، بل يقاتلون من أجل البقاء في هذه الدائرة، حيث المال وحب الجمهور وتهافت علية القوم عليهم، وعندما يقرر البعض، خصوصا الفنانات، الابتعاد والتضحية بكل هذا، سواء بسبب ارتداء الحجاب أو الاحتجاب طواعية أو رغما عنهن، فلابد أن تكون هناك قصة تستحق أن تروى، لذلك تفتح "السياسة" ملف "فنانات بين الحجاب والاحتجاب"، عن بعض من ضحين بالأضواء والشهرة لأسباب عدة، حتى إن عادت بعضهن.
* وجدت رضيعة عند بابها فأيقنت أن الله أرسل لها نهر ثواب لا ينقطع* هربت من اضطهاد أخيها بعد اكتشافه ولعها بالرقص فحققت النجومية الطاغية* انتقدت الضباط الأحرار فقبض عليها بتهمة قلب نظام الحكم * طردها زوجها واستولى على شقتها ولم ترضخ للضغوط وصعوبات الحياة* أدت العمرة وتغيَّرت حياتها بعد ارتداء الحجاب والاعتزالاستيقظت الفنانة الكبيرة تحية كاريوكا، ذات يوم فسمعت بكاء متصلاً قريباً من شقتها، فتحت الباب فوجدت على عتبته طفلة رضيعة وضعها أحدهم ولاذ بالفرار، حملتها وهي في حيرة من أمرها ماذا تفعل مع هذه الوافدة الجديدة، التي لا ذنب لها، سارعت بالاتصال على الشيخ محمد متولى الشعراوي، فأشار عليها بالاحتفاظ بالطفلة ورعايتها قائلاً: "إنها عطية الله لك"، لحظتها أيقنت أن الله يربت على كتفيها بحنان وأراد أن يرسل لها نهرا من الثواب لا ينقطع، أخذت تنظر إلى الطفلة ودموع الفرح تغرق وجهها وظلت تتأملها وشريط الذكريات يمر أمامها وكأنه فيلم من الأفلام التي قامت بتجسيده.يوما ما كانت مثل هذه الطفلة لا تملك مصيرها، وهي تائهة في زحام القاهرة بعد أن هربت من بلدتها الإسماعيلية، لم تتحمل انفصال والدها عن والدتها واضطهاد أخيها لها حين اكتشف ميولها الفنية، وشغفها بالرقص، فقام بتقييدها في الفراش وضربها، لكنها تمكنت من الفرار بعد أن خرج من البيت. لم يكن طريقها في القاهرة مفروشا بالياسمين والورود، بل تحفه الأشواك من كل جانب، لكنها استطاعت رغم طمع الطامعين فيها لجمالها وأنوثتها الطاغية وهي الفتاة الصغيرة أن تحافظ على نفسها، فقد كانت تتسلح بالوعي والنضج، فكانا السياج، الذي حقق لها الحماية في الحياة، وجعلها تسير بمنتهى الثبات دون السقوط في الهاوية، أو الضعف والرضوخ أمام ضغوط الحياة وصعوبة المعيشة، حتى بدأت تطأ بقدميها أرض أحلامها وسخرت الظروف لصالحها، فبدأت تخطو بخطى ثابتة نحو النجاح وتنقش اسمها كنجمة من نجمات الرقص والتمثيل في الشرق الأوسط.لم تكن بدوية محمد كريم علي السيد النيداني، وهذا اسمها الحقيقي، التي ولدت في 22 فبراير 1919، مجرد ممثلة وراقصة مصرية، بل علامة من علامات الفن، تعد ظاهرة فريدة، وهناك مدارس أسست لتدريس منهجها الخاص في الرقص الشرقي، ورغم تاريخها الفني الطويل، فهي أيضا كانت صاحبة مواقف سياسية أهلتها لها شخصيتها القوية وشجاعتها التي تميزت بها، وجعلت لها دورا لا يمكن إغفاله في النضال والعمل السياسي، حيث أخفت في سيارتها أسلحة وذخيرة وقامت بتوصيلها للفدائيين في العام 1948، كما تم القبض عليها وحبست هي وزوجها مصطفى كمال صدقي أحد الضباط الأحرار، الذي انشق عنهم فيما بعد، لانتقادها الضباط الأحرار وطريقة إدارتهم للبلد، كما أعتقلها جمال عبدالناصر هي وزوجها مرة آخرى على خلفية قضية أمنية كبرى، حيث اتهمها بمحاولة قلب نظام الحكم، وشاركت أيضا في إضرابات عدة، أشهرها امتناعها عن الطعام تماما، حيث أضربت عن الطعام رافضة بحزم قرار منح نقيب المهن التمثيلية حق الترشح للمنصب مدى الحياة.
دور جوهريتنظر تحية للطفلة التي استكانت في حضنها بعد أن كانت تبكي، وتغيب مرة أخرى في بحر ذكرياتها وتبتسم وهي تتذكر نفسها، كيف كانت عضواً بارزاً في التنظيمات السرية التي تخدم الدولة، حيث لعبت دوراً جوهرياً في حماية رئيس مصر الراحل محمد أنور السادات وساعدته وقدمت له العون، في وقت كان يشعر فيه بانعدام الثقة والأمان، فقامت بتوفير مكان ليختبئ ويحتمي به، حيث كان مطارداً من قبل رجال الأمن على خلفية مقتل أمين عثمان قبل قيام ثورة يوليو 1952. وكيف حرصت أيضا على مساندة الجيش والدولة من خلال ترؤسها حملات خيرية لتسليح الجيش، حيث كانت تذهب في حملات برفقة زميلاتها من الفنانات للميادين والأسواق الشعبية حاملين صناديق لجمع التبرعات من الجمهور، الذي كان سرعان ما يلتف حول وفد الفنانين والفنانات ويسارع بالتبرع بالأموال، كانت تشارك البنات الزغاريد وهن يجمعن التبرعات برفقة الفنان الراحل فريد شوقي، وكيف كانت لا تتوانى في تقديم أي مساعدة للوطن أو لأي محتاج، حتى أنها اشتهرت في الوسط الفني بأنها من أكثر الشخصيات الانسانية، التي يمكن الاعتماد عليها واللجوء إليها في الأزمات، فهي السند والصديقة، التي تهب لنجدة المظلوم، والشجاعة التي لا تخشى في الحق لومة لائم، بخلاف مكانتها الفنية وحقيقتها كقيمة وقامة كبيرة."لو كنت أعلم أنك من تنادين لجئتك رأسا وليس رقصاً"... تضحك تحية حتى كاد صوت ضحكتها يوقظ الطفلة، التي نامت، لكنها بيد حانية ربطت على ظهرها فعادت إلى النوم، لكن صوت الشيخ الشعراوي لم يغادر أذنيها وهو يردد هذه العبارة، عندما التقته في المملكة العربية السعودية أثناء أدائها مناسك العمرة، حيث التقته مصادفة، فنادت عليه "يا مولانا.. يا مولانا.. مولانا"، لم ينتبه لوجودها ولم يجب على نداءاتها المتكررة، فرفعت صوتها وهي تعيد مناداته، فالتفت إليها بعد أن انتبه أن هناك من يناديه، فقالت معاتبة "ناديتك كثيراً"، وعرفته بنفسها قائلة "أنا الفنانة المعتزلة تحية كاريوكا"، تمعن النظر بها لحظة، فقد كانت تخفي معظم وجهها بالحجاب، ورد عليها مداعبا بعد أن تأكد من هويتها قائلاً لها: "لو كنت أعلم أنك من تنادين لجئتك رأسا وليس رقصاً"، ودعا لها بالهداية والثبات، وقتها كان الشيخ الشعراوي مقيماً في المملكة لفترة طويلة تجاوزت العشر سنوات، لذا ازدادت فرص مقابلة الفنانات له في الحرم المكي، حيث محل إقامته القريب من الكعبة، ولعبت الصدفة دوراً مهماً مع تحية كاريوكا، حيث حالفها الحظ وقابلته، ورغم أن الأمر كان وليد المصادفة أيضاً، لكن مقابلته كان لها بالغ الأثر في حياتها، فقد شعرت أن الله بجوارها ورأت الضوء في آخر نفق الحياة، فاستجمعت قوتها وقررت المضي قدماً والثبات على المبدأ، والابتعاد عن الأضواء بشكل تام وكامل وقاطعت الوسط الفني وآثرت الاحتجاب حتى ينساها الصحافيون والكتاب، عملاً بنصيحة الشيخ الشعراوي لها.لم يكن الابتعاد عن عالم الأضواء والشهرة صعبا على تحية، فمن قبل اتخذت قرارها بالابتعاد عن الرقص وهي في قمة مجدها، بشكل أثار دهشة كل من حولها، لكنها لم تبال بمطالبة الكثيرين بأن تعود وتواصل رحلتها مع الرقص، لأنها رفضت أن يكون مصيرها كراقصة مثل أمينة محمد خالة الفنانة أمينة رزق، وكيف كان الناس يسخرون منها بصورة مؤلمة، بسبب استمرارها في الرقص رغم كبر سنها، ففضلت كاريوكا أن تعتز بالرقص كفن، معلنة احتجابها عنه وهي في قمة نجوميتها الاستعراضية مكتفية بالتمثيل، ساعدها في ذلك شخصيتها التي تتسم بالنضج والذكاء، حيث أحسنت اختيار توقيت اعتزال الرقص وهي في قمة نجاحها الفني غير عابئة بالهجوم الذي تعرضت له، لاقتناعها أن الفنان الذكي من يعتزل وهو في أبهى صوره مع الجمهور، لا أن ينتظر حتى يخفت نجمه ويفقد بريقه بحكم الزمن وعوامل السن، وهذا أمر تحسد عليه، حيث من النادر أن تتخذ مثل هذا القرار فنانة بحجم وشهرة ومكانة النجمة وفنانة الاستعراض والرقص الشرقي تحية كاريوكا، لذلك لم يكن صعبا عليها الابتعاد نهائيا عن الأضواء، خصوصا أنها وجدت أنها باتت أكثر هدوء وأمانا في الاحتجاب والبعد عن الفن والكاميرا، ووجدت في الحجاب راحة لها، لأن العمل في الفن يأخذ من وقتها الكثير، كما أتاح لها الاعتزال الوقت للتعبد والتقرب من الله أكثر، فرغم انشغالها طوال السنوات الماضية بسبب عملها في الفن إلا أنها كانت تواظب على العبادات وتحرص على قراءة القرآن والصلاة في موعدها، وهو عكس ما كان يعتقده البعض عنها، فكونها راقصة، كان يفتح الباب لخيالهم بأن حياتها منفتحة وتعيشها دون قيد أو شرط أو اهتمام لتقاليد وعُرف، لكن الوقائع وبشهادة المقربين منها تؤكد أنها كانت تتمتع بحسن الخلق والثبات على المبادئ، وهذا يفسر تعدد مرات زواجها، التي زادت على العشر زيجات شرعيةوموثقة، حيث أكدت ابنة أختها الفنانة رجاء الجداوي أن خالتها تزوجت كثيراً، لأنها كانت ترفض الارتباط بعلاقات غير شرعية، لذلك لم يلمس جسدها غير أزواجها فقط.أخلاق النبلاء"أبكيتيني يا تحية وأصبحت أغار منك"، لا تدري لماذا تذكرت الفنانة تحية كاريوكا هذه العبارة، التي جعلت دموعها تبلل وجهها، حتى كادت تتساقط على وجه الطفلة فمسحتها قبل أن تصل إليها، هذه العبارة قالها لها أيضا الشيخ الشعراوي عندما قصت عليه ما تتعرض له من اضطهاد من قبل زوجها الفنان فايز حلاوة، الذي تزوج عليها واستولى على شقتها، وأسس فيها أسرة وأنجب طفلة، تاركاً إياها وهي تواجه الشيخوخة بلا منزل ولا مأوى تلوذ إليه وتحتمي به من غدر الأيام، فما كان من الشعراوي إلا أن نصحها بضرورة عمل توكيل لمحام، ليتولى إثبات أحقيتها في ملكية العقار، وعندما وجدت أن ذلك سيترتب عليه رفع دعوى تمكين من العقار محل النزاع، تفاجأ الشعراوي برد فعلها تجاه طليقها المسن وأسرته التي شاركته الاستيلاء على حقها قائلة "طليقي كهل مسؤول عن أسرة ولا ملاذ له سوى هذه الشقة وأخشى عليه من حِدة الموقف وصعوبته"، فما كان من الشيخ الجليل إلا أن قال لها "أبكيتيني يا تحية وأصبحت أغار منك"، فقالت له "تغار مني أنا يا مولانا"، فقال لها "نعم، لقد أصبح لك قصورا في الجنة يا تحية"، موضحا أن ذلك بسبب الإيثار، حيث فضلت أن تتنازل عن حقها من أجل غيرها، كي لا يتأذى من كان سبباً في إيلامها يوما ما، وكيف أن تحلت بأخلاق النبلاء الذين يجيدون استخدام رخصة "العفو عند المقدرة".لم تجد الفنانة تحية كاريوكا مأوى لها، فأقامت مع صديقتها بعض الوقت بعد أن رفضت بكبرياء مساعدة زملائها في الوسط الفني، رغم صدمتها من موقف زوجها الذي استباح ما ليس له، خصوصا أنه كان صاحب أطول فترة زواج بها، حيث دام زواجهما 18 عاما، لكنها استطاعت تجاوز الأزمة والوقوف على قدميها مرة ثانية، ثم توسطت لها الفنانة فاتن حمامة لدى شخصية نافذة وفرت لها مكانا آمنا ظلت مقيمة فيه بقية عمرها.كما أصبح الشيخ الشعراوي الملجأ بالنسبة لها كلما احتاجت إلى مشورته، فعندما التقته في السعودية أول مرة لم تغادر مكة المكرمة، إلا بعد أن اتفقت معه على أن تتصل به إذا احتاجت شيئاً أو استشارة أو نصيحة، وما طلبت ذلك إلا لمعرفتها بأنه لا يبخل بوقته أو علمه على أحد قط، وهذا سبب ثقة الفنانات به وحب الناس له عبر العصور، حيث وجدوا فيه رجل الدين الفطن صاحب سعة الصدر اللين، والمتفتح والمعتدل الفكر، لم يكن منفراً للدين، بل جاذباً ومحبباً له، توطدت علاقتها به وأصبحت تستشيره في أمور كثيرة في حياتها، لذا عندما وجدت الطفلة الرضيعة أمام باب شقتها لم تدر ماذا تفعل، واتصلت به على الفور بعد أن شعرت بالشفقة على هذه الرضيعة ورق قلبها لها، خصوصا أنها طفلة لا ذنب لها في أي شي، فأشار عليها الشيخ الشعراوي بالاحتفاظ بها والقيام برعايتها وتبنيها قائلاً: "إنها عطية الله لك". ووصاها بالاهتمام بها وحسن رعايتها.. وكفالتها طول حياتها، لم تتردد تحية كاريوكا ولو للحظة في تنفيذ نصيحة الشيخ متولي الشعراوي، وهي موقنة أن الله يربت على كتفيها بحنان وأراد أن يرسل لها نهر من الثواب لا ينقطع.. ومن هذا الذي يستطيع أن يرفض عطية الله له، لذلك أطلقت على الرضيعة اسم "عطية الله"، وقامت برعايتها وظلت هكذا والفتاة في كنفها حتى رحلت عن الدنيا، لكنها قبل وفاتها كانت أوصت أن تقوم الفنانة والراقصة فيفي عبده برعايتها وهو ما حدث بالفعل بعد رحيلها. الرحيلتوفيت الفنانة تحية كاريوكا بعد معاناة مع المرض نتيجة إصابتها بجلطة في الرئة، رحلت بعد أن خطت أخر سطر في حياتها، حيث كانت عائدة للتو من أطهر بقاع الأرض بعد أداء مناسك العمرة، فهي منذ قررت الاحتجاب كانت تواظب يومياً على أداء الصلوات وقراءة القرآن والأدعية، وزاد هذا الأمر في الفترة الأخيرة قبل وفاتها، لما اتاحه لها المرض والراحة من توفير الوقت واعانها على زيادة فترات الذكر والعبادة، رحلت عام 1999 عن عمر يناهز 80 عاماً، رحلت كقامة فنية وشخصية طالما كانت محل احترام واهتمام من الجميع، رحلت عن الدنيا، لتظل علامة من علامات النضال والفن والإنسانية وحب الوطن، رحلت وهي تشعر أنها من المحظوظات، لأنها وجدت الضوء في نهاية نفق الحياة المظلم، رحلت وهي تطمع في المزيد من الحظ والمغفرة في الآخرة.

تحية كاريوكا تغيرت بعد الحجاب