الجمعة 16 مايو 2025
29°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
منوعات

"جبرائيل الدلاَّل شاعرُ السِّحر الحلال"

Time
الثلاثاء 31 ديسمبر 2019
View
5
السياسة
يغمس الباحث الدكتور جوزيف إلياس كحَّالة، الحلبيُّ النشأة الباريسيُّ الإقامة، يراعته في مداد الوفاء، ليعيد إلى الأذهان في الذكرى 125 على الرحيل، صورة شاعر حلبيٍّ أصيل، أشادت به قلِّة من الناس، وتغاضت عنه أكثريَّتُهم، لما في حياته المتفرِّدة من آراء ثورويَّة صاخبة ومواقف بطوليَّة لاهبة.. حتِّى إنَّ مصرعه في محبسه، وهو بعدُ في شبابه، شكَّل علامة استفهام كبيرة لا تزال باقية في الوجدان إلى اليوم! جبرائيل الدلاَّل (1836-1892) شاعرٌ وناثرٌ وصحافيٌّ رائد. وهو سليل أسرة نبيلة عُرف عنها حُبُّ الفنون والآداب ونهل العلوم والثقافات وعقد مجالس الشِّعر والفكر.. ولا تزال دار آل الدلاَّل في حلب – على ما نابها مؤخَّرًا من خراب جائرٍ مُخزٍ – شاهدة، إلى يومنا هذا، على منزلة هذه الأسرة ومكانتها في المجتمع الحلبيّ.
شغل الدلاَّل أهل زمانه بقلمه السيَّال النابض بالحياة. وإذ تسنَّى له، كما حال غيره من أولاد العائلات الحلبيَّة الميسورة، أن يجوب البلدان، وأن يسافر إلى باريس التي تشبَّع من أفكار حركاتها الثورويَّة آنذاك، وبخاصّة أفكار فولتير، تبنَّى، بدَوره، الفكر النضاليَّ الحُرّ. ولزم رأيًا في الحياة لا يرضى المساومة، ولا يهاب سطوة محتلٍّ أو يخشى رهبة حاكم. ولعلَّ في هذا تأكيدًا لدَور أبناء حلب، الذين ما كانوا من الأُسر الرقيقة الحال وحسب، بل من الأُسر الميسورة أيضًا، في استشراف الفكر التحرُّريّ والانتفاض في وجه الاحتلال العثمانيّ. وكان الجامع الأوحد بين الجميع حُبُّ الوطن والذود عن وجوده. ويقودنا هذا أيضًا إلى الزعم بأنَّ حلب الشهباء لا تُعرف من قلعتها وضيافتها وطباع أهلها وحميميَّتهم وحسب، بل تُعرف أيضًا من رجالاتها الذين صنعوا نهضة فكريَّة تنويريَّة هامَّة أشعَّت بنُورها خيرًا على جيرانها العرب، وتستحقُّ أن توضع بإنصاف في سياقها المناسب وفي إطارها التاريخيّ، قراءةً ودرسًا. وقد مهَّد هؤلاء الحلبيّون، يدًا في يد، لثقافة نضاليَّة ترفع من كرامة الإنسان، أيًّا كان، وتُحيي دَور اللغة، وتتطلَّع إلى مستقبل معرفيٍّ حضاريٍّ أكثر إشراقًا، مهما تجهَّمت السماء ودارت الدوائر. ولأنَّ نفوس العباد تأنس لما تعوَّدته وتبقى راسخة على اعتقاد صحَّته، وإن كان في الحقيقة خاطئًا، قضى الدلاَّل ضحيَّة استشرافاته الليبراليَّة تلك ورسالته التحريريَّة، التي أعلنها للناس، جنبًا إلى جنب مع أقرانه، في المجالَين، الاجتماعيِّ والقوميّ. وسُجن ظُلمًا مدَّة سنتين في آخِر حياته. ووُجد ميْتًا في زنزانته قبل انقضاء "محكوميَّته" بيوم واحد! إهداء الكتاب، الذي يقع في 208 صفحات من القطع الوسط ونشرته دار نعمان للثَّقافة (جونيه – لبنان)، إلى "الحبيبة حلب، ملحمة التاريخ والأدب والطرب.. وإلى جَمالاتها.. وإلى كلِّ شبر من طاهر ثراها"؛ وإلى "كلِّ حلبيّ مخلص أصيل لا ينفكُّ يحمل في قلبه ووجدانه وفي حَلِّه وتَرحاله مدينته حلب". وإلى "جبرائيل الدلاَّل، السيِّد، الماجد، الرافع صوت الإنسان شِعرًا ونثرًا.. ساحر الشِّعر وشاعر السِّحر" (ص9).
وجاء الغلاف معبِّرًا منتقى بإتقان، تتصدَّره، مع صورة المترجَم له، لوحة للرسَّام الفرنسيّ الشهير بول سيزان. وهي لشجرة فستق نادرة في جوار مرسيليا (فرنسا)، حيث عاش الدلاَّل ردحًا من الزمن. وقد جُلبت من القسطنطينيَّة العام 1834 ولا تزال حيَّة إلى يومنا هذا. ولا يخفى ما للفستق من دلالة عند الحلبيِّين. وجاء في استفتاح الكتاب: "الأديب الفيلسوف والمؤرِّخ كحّالة يكشف مخبَّآت جبرائيل الدلاّل"، لعميد مجلّة "الضاد" الحلبيّة العريقة (تأسّست 1931) الأديب الشاعر رياض عبد الله حلاّق. وفي السطور إجلال وتقدير للدلاَّل "الذي ملأ عمق القرن التاسع عشر، بشِعره وقوافيه... وظلَّ قريبًا من أبناء جلدته، على الرغم من تأثًّره بأدب الغرب، الذي دعا إلى التحرُّر من الجور والظلم والاضطهاد". كما يشير التصدير إلى قصيدة "العرش والهيكل" التي كانت سببًا رئيسًا في نهاية شاعرنا الأليمة. وعُدَّت بحقٍّ تأريخًا وافيًا "لحقيقة المرحلة الأدبيَّة والفكريَّة والفلسفيَّة، التي عاشها علماء النهضة ومفكِّروها، في مدينة حلب، والبلاد العربيَّة إبَّان الحُكم العثمانيِّ في القرن التاسع عشر". وفي مقدّمته المنقولة أيضًا إلى الفرنسيّة في آخِر الكتاب، يبيِّن المؤلّف كحَّالة ما شدَّه إلى سيرة الدلاَّل "شهيد الأدب والفكر". وقد نشأ كحَّالة في بيت والديٍّ يقع في شارع جبرائيل دلاَّل (أحد أهمِّ شوارع مدينة حلب في حيِّ العزيزيَّة)، وكان يطيب له أن يتردَّد على دار آل الدلاَّل الواقعة في حلب القديمة، قبل مغادرته بلده.
آخر الأخبار