الأربعاء 25 سبتمبر 2024
35°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأخيرة

جَدتي الأُميَّة... الفقيهة

Time
الأربعاء 27 يونيو 2018
View
5
السياسة
محمد الفوزان

تقول إحداهن: عندما كنت صغيرة عشت لفترة مع جدتي...تلك العجوز التي لم تنل قسطًا كافيًا من التعليم، لكن رزقها الله بدلاً من ذلك حكمةً فطريةً عجيبةً وإيماناً عميقاً، فكانت تمر بالبيت أحياناً ظروفٌ اقتصاديةٌ صعبةٌ مثل ما يحدث في كثير من بيوت الناس لأي سبب، مثلاً، ألَّا يستطيع خالي إرسال مال لها.
ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت إلى أن تمر الأزمة بسلام.
لكن في يوم لا أنساه، مرت جدتي بأزمة طاحنة مفاجئة لم تكن في الحسبان، فقد ذهبت للسوق لتشتري بعض الحاجيات فضاع منها كيس نقودها أو سرقه أحدهم.
عادت للبيت ودخلت فوراً وهي شاردة نحو «دولاب» الملابس لتخرج آخر ما تبقى من نقود.
ولا أنساها حين تسمرت وهي تنظر لخمسة الجنيهات الباقية في البيت كله...أمسكت بها لدقيقة كاملة تنظر إليها وكأن نهر الأفكار والحسابات المعقدة يمر بعقلها، وظهرتْ للمرة الأولى في عيني المرأةِ القويةِ دموعُ الحيرة والعجز.
ثم كأنها قررت حلاً مفاجئاً، فالتفتتْ إليَّ بحماسةٍ وتصميم تطلب مني أن أساعدَها في ما ستفعله، لكن ما طلبته كاد يصيبني بالجنون.
طلبت مني أن أنزل لشراء عشرِ بيضات، وربع كيلو عدس، فظننتُ أنها ستطبخه لنا... لكن!
أخذتْ تطبخ العدس في استغراق وإتقان، وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر البيت، وسلقت البيض، وسخنت بعض أرغفة الخبز، ووضعت بعض الملح والفلفل في ورقة صغيرة، ثم أخذت كل هذا، ونزلت إلى الشارع، ووزعته على بعض الفقراء في الحي.
كِدتُ أُجن، فقد نفدَ ما عندنا من مال، وليتها على الأقل أعطتني بيضة منها لأسد جوعي!
وكأنها قرأتْ ذلك في عيني المذهولة، فقالت في إيجاز وثقة كلمتين فقط :»اصبري... هتشوفي».
رجعنا البيت قبيل العصر، ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت...لكننا استيقظنا على صوت طرق مزعج لباب البيت، وإذا بولدٍ ممن يبيعون في السوق يسألها:»كيس الفلوس ده بتاعك يا حاجة»؟
كان سقط منها أمامه، ولما حاول اللحاق بها تاهت منه في زحمة السوق، ولأنه أمين فقد سأل الباعة حوله بعد نهاية السوق عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا، والتي تأتينا كل أسبوع، فأرشدته إحدى البائعات.
ولم تمضِ ساعة، حتى ارتفع صوت طارق آخر، وإذا بصديق لخالي عاد من سفر ليعطينا دَيْناً عليه لخالي اقترضه قبل السفر مع هدايا وحلويات.
يومها قالت جدتي:» يا بنتي...اللقمة تزيح النقمة... كل ما تضيق بك وتلاقي روحك مزنوقة أطعمي فقيراً، أو محروماً».
قلت لها ضاحكة:» طيب كنا نطلع حاجة ثانية أحسن من العدس».
قالت:» العدس من الأكل اللي ربنا ذكره في القرآن الكريم، وكمان أنا أعطيه للناس لأنني أحبه، قدّمي للناس من اللقمة اللي تحبينها، يقوم ربنا يحلّي زادك ويفك كربك».
كبرت فيما بعد، وعرفت التأصيل الشرعي لثقافة جدتي...عرفت الحديث القدسي»انفق يا ابن آدم أنفق عليك».
وعرفت حديث الرسول عن الرجل الذي سمع صوتاً في سحابة :»اسق حديقة فلان».
وتعلمت قول الله تعالى :»وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين».
لم تكن جدتي تحفظ هذه النصوص، لكن هذا اليقين يسري في كيانها كله.
كانت في أيام الشتاء الباردة تسلق البيض وتوزعه على رجال المرور الواقفين في الشارع!
أو تحضر ساندويش فول وتعطيه لعامل النظافة.
كبرت وقرأت الكثير عن فضائل الإنفاق في سبيل الله، وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة.
فاستقبلتها في يقين، من عاين كل هذا بعينيه، ورأى كيف يستر الله أسرة بسيطة كبيرة العدد قليلة الرزق عبر سنوات، ويعبر بها نهر الحياة في بساطة وبركة ويسر.
تعلمت أن التعامل مع الله تجارة رابحة، وأن من تعامل مع الله عرف كرمه ولطفه ورحمته... فقط تعامل معه بيقين.

آخر الأخبار