الأحد 06 أكتوبر 2024
29°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأخيرة

حاتم الأصم في الحج

Time
السبت 25 أغسطس 2018
View
5
السياسة
محمد الفوزان

من كبار العلماء الزهاد، ومن تلاميذ الشيخ شقيق البلخي، رحمهما الله تعالى، طلب العلم على يديه ما يربو على ثلاثين عاماً، وهو في الحقيقة لم يكن أصما، إنما أشتهر بذلك لأنه لما جاءته امرأة فسألته عن مسألة، فاتفق أنه خرج منها صوت فخجلت، فقال حاتم:" ارفعي صوتك"، فأوهمها أنه أصمّ، فسرَّت المرأة بذلك، وخرجت تقول للناس:" ما أفقهه لولا أنه أصم"، فلقّب بحاتم الأصم.
وفي سنة من السنوات اشتاق حاتم الأصم الى الحج، لكنه لا يملك النفقة على نفسه ولا على أهله من بعده، لأنه سوف يغيب عنهم اشهر، فلما اقترب موسم الحج أخذه الهم والحزن والغم حتى قاده ذلك إلى البكاء شوقا لبيت الله الحرام، فرأته ابنة له صغيرة، لكنها كبيرة في صلاحها وتقواها، فقالت لأبيها:" ما يبكيك يا أبتاه"؟
فقال: الحج أقبل.
فقالت:" وما لك لا تحج"؟
اجاب:"النفقة".
فقالت:" يرزقك الله".
قال:"النفقة عليكم من بعدي".
اجابت:" يرزقنا الله".
فقال لها:" الأمر إلى أمكِ، لأن الأم هي من تتحمل هم البيت والطعام والشراب والمريض وغيرها".
فذهبت البنت الصالحة إلى أمها وإخوانها وأخواتها وقالت لهم:" والدنا ليس هو الرزاق، إنما الرزاق الذي يرزقنا هو الله تعالى... فلندع والدنا يخرج إلى الحج".
فما كان من أمر العائلة الا الموافقة لوالدهم على الخروج إلى الحج، فخرج حاتم الأصم، وكان قد اعطى أهله من النفقة ما يكفيهم لمدة ثلاثة أيام.
لا إله إلا الله ما أعظم هذا التوكل على الله، وهو يعرف أنه سيتركهم أشهر، ثم خرج يسير خلف القافلة لأنه لا يملك النفقة حتى يكون ضمن القافلة، وفي طريقهم الى مكة قّدر الله تعالى أن عقرباً تلدغ أمير القافلة، فأصابه الألم الشديد حتى كاد ينهي حياته، فقال الناس:" إن حاتم الأصم الرجل الصالح معنا خلف القافلة، فلماذا لا نطلب منه أن يرقي قائد القافلة"؟
فذهبوا إليه وطلبوا منه ذلك فوافق، ثم أتى ورقى قائد القافلة فشفاه الله تعالى وعافاه من ذلكم السم، فقال القائد:" نفقتك في الذهاب الى الحج وفي العودة من الحج عليّ"، فاستبشر حاتم، وعلم أن ذلك من فضل الله، ثم قال:" اللهم هذا تدبيرك لي فأرني تدبيرك في أهل بيتي".
أماّ أهل بيت حاتم فلقد مضى اليوم الأول والثاني والثالث، فلم يزدد الأمر إلا سوءا وفقراً وحاجةً، فأخذت الأم والأولاد يعاتبون البنت الصالحة، وقالوا:" أنت السبب في ما نحن فيه وأنت التي فعلتِ وفعلتِ".
وأخذوا يلومونها ويوبخونها، لكنها صابرة واثقة وهي تبتسم وتقول في نفسها:" اللهم قد عودتنا فضلك فلا تمنعنا من فضلك".
فقالت لها أمها:" كيف تضحكين ونحن نتضور من الجوع؟
فقالت:" هل أبونا هو الرزاق أم انه آكل رزق"؟
فقالوا :" بل إنه آكل رزق والرزاق هو الله تعالى"، فقالت البنت الصالحة التقية الواثقة بالله تعالى:" لقد ذهب آكل الرزق وبقي الرزاق"، وما هي إلا ساعات وباب البيت يطرق فقالوا:" من الطارق"؟
قال:" إن الأمير يستسقيكم"، فقالت الأم:" سبحان الله نحن نتضور من الجوع وأمير المؤمنين يستسقينا"!
فما كان منها إلا أن جهّزت إناءً نظيفاً وملأته ماء عذباً، وقد كان أمير البلدة في رحلة صيد، فانقطع الماء عنهم فأصابه العطش الشديد، فارسل وزيره إلى اقرب بيت، فكان بيت حاتم الأصم.
لما شرب الأمير من ذلكم الماء العذب أحس بطعم وعذوبة الماء، فسأل الوزراء: من صاحب البيت؟
قالوا:" هذا بيت حاتم الأصم".
فقال:" الرجل الصالح"؟
قالوا:" نعم".
فقال:" الحمد لله الذي أسقانا من بيوت الصالحين".
اضاف:" نادوه حتى نجازيه".
فاخبروه انه خرج للحج، فقام الأمير وخلع مِنطقته، أي حزامه وهو من القماش المرصع بالجواهر والدرر، ورمى به لأهل حاتم الأصم، وقال لوزرائه:" من كان منكم لي عليه يد- يحترمني- فليفعل صنيعي".
فخلعوا جميعاً أحزمتهم وأعطوها أهل حاتم، فقام أحد التجار واشترى هذه الأحزمة بمبالغ كبيرة من الذهب، وأعاد هذه الأحزمة إلى الأمير والوزراء تزلفاً وتقرباً لهم، فأصبح بيت حاتم الأصم من أغنى بيوت المسلمين، واخذ أبناء حاتم يأكلون ويشترون ما يريدون من الطعام.
لكن البنت الصالحة تبكي! عجباً والله لهذه البنت التقية!
فقالت لها الأم:" عجباً لكِ يا بنيتي، بالأمس كنا في جوع وفقر، وأنت تضحكين واليوم، وقد أغنانا الله، وأنت تبكين"؟
فقالت البنت الصالحة:" هذا مخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً نظر إلينا نظرة واحدة بشفقة ورحمة فأغنانا حتى الموت، فكيف لو نظر الرزاق إلينا عز وجل"؟
لكم أن تتأملوا في عمق هذه العبارة التي قالتها البنت الصالحة... نسأل الله جلّ وعلا صلاح النية والذرية والعصمة من الفتن والزلل ومن فساد القول والعمل.

آخر الأخبار