فقد الغناء السوري والعربي أحد ألمع الأصوات الماسية، المطرب السوري الكبير صباح فخري، الذي رحل أمس عن عمر ناهز 88 عاماً، ونعته وزارة الثقافة ونقابة الفنانين في سورية، بينما قال نجله أنس: "توفي في دمشق وفاة طبيعية، توقف قلبه عن النبض وغادرنا".تربع الفنان السوري الكبير، لعقود طويلة على عرش الغناء الأصيل كما كان عراب القدود الحلبية، قبل أن يطوي آخر صفحات حياته، ومثلما قالت وزارة الثقافة في نعيه "رحَل أحد أساطير وأعمدة الطرب العربي الأصيل". وُلِد الفنان فخري باسم صباح الدين أبوقوس، في حلب القديمة العام 1933، إذ كان مُحاطاً بثلّة من شيوخ الغناء والمنشدين وقارئي القرآن ونجوم القدود الحلبية، وكان يصحب والده إلى جامع الحارة القريبة، حيث تقام حلقات الذكر والإنشاد، فأحب الأجواء وأراد المشاركة وكان له ما أراد وأقام أول حلقة إنشاد وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره لقاء ليرتين سورتين، وأدى أولى القصائد بعنوان "مقلتي قد نلت كل الارب".وتمكن في سنّ مبكرة أيضاً من حفظ القرآن كاملا وتلاوة سوَره في جوامع حلب وحلقات النقشبندية، وبدأ يتدرب مع الشيخ بكري الكردي أحد أبرز شيوخ الموسيقى، فازداد تعلقا بالإنشاد والتجويد عبر مجالسته كبار واجتاز اختبارات غنائية صعبة على أيدي "السمّيعة"، الذين يتمتعون بآذان لا تُخطئ النغم وتكشف خامات الصوت.ساهمت "خوانم"، أو نساء ذلك الزمن، في صعود نجمه، إذ من عادات نساء حلب إقامة حفل شهري في المنزل يحضره الأهل والمعارف والجيران، يُسمّى "القبول" فيه الغناء والعزف والرقص، وبدأ صباح يعرف طريق حفلات النساء اللاتي يطلبنه للغناء.التحق صباح بالمدرسة الحمدانية في حلب، وأكد تفوّقه كتلميذ يشارك في المهرجانات السنوية للمدرسة.تعهده بالرعاية الفنان سامي الشوا وغير اسمه إلى محمد صباح، واصطحبه معه في جولات غنائية بالمحافظات، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره، اختير للغناء أمام رئيس الجمهورية السورية آنذاك شكري القوتلي، خلال زيارته حلب العام 1946، ما اعُتبر محطة مفصلية قفَزت بفتى الموشحات إلى خارج مدينة حلب.تقول الكاتبة السورية شدا نصار، في كتاب "صباح فخري سيرة وتراث"، انه رفض السفر إلى مصر لصقل موهبته وآثر البقاء في دمشق والغناء عبر إذاعتها الرسمية، وحين أسس السياسي المخضرم النائب فخري البارودي، معهدا للموسيقى في دمشق وأُعجِب بصوته وتوقع له مستقبلاً باهراً، قرر تبني موهبته وإعطاءه لقبه ومن يومها أصبح اسمه صباح فخري.أنجز صباح فخري أولى تجاربه في التلحين وهو لم يتجاوز 14 عاماً بمساعدة الفنان عمر البطش، وكانت أنشودة "يا رايحين لبيت الله"، أما أول أدواره فمن ألحان سري الطنبورجي، بعنوان "أنا في سكرين من خمر وعين" التي التصقت به بعدما أضاف إليها من روحه في اللحن والكلمة.تغير صوت صباح فخري، تماما وساءت حالته النفسية، حين دخل مرحلة الشباب، إذ أثرت هرمونات الرجولة على طبيعة صوته الذي بدا كالمبحوح وفيه حشرجة، فاضطر لاعتزال الغناء مكرها في سنّ الخامسة عشرة، وعمل في مهن أخرى إلى أن التحق بالجيش، وبعدما اكتمل تكوين واستقرار صوته عاد إلى أضواء الشهرة والغناء عبر إذاعة حلب وسهرات إذاعة دمشق، وكان يقدم الموال والقدود الحلبية "مالك يا حلوة مالك"، "يا مال الشام ويالله يا مالي".غنّى فخري "نغم الأمس" مع رفيق السبيعي وصباح الجزائري، وسجّل نحو 160 لحناً بين أغنية وقصيدة ودور وموشّح وموال مع الحفاظ على التراث العربي الذي تشتهر به حلب، وسجل أيضا أسماء الله الحسنى مع الفنانين عبدالرحمن آل رشي، منى واصف وزيناتي قدسية.شارك فخري كذلك في المسلسل الإذاعي "زرياب"، ولحّن العديد من القصائد العربية وغنّاها، لأبي الطيب المتنبي وأبوفراس الحمداني ومسكين الدارمي وابن الفارض والرواس وابن زيدون وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.وفي التمثيل لعب في لبنان بطولة "الوادي الكبير" أمام وردة الجزائرية في العام 1974.ومع سنوات الخبرة ازداد تألقا وبات أحد أساطير الطرب الأصيل وعراب القدود الحلبية، وأطلق عليه لقب "قلعة حلب الثانية"، كما حاز وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة في العام 2007 تقديراً لـ "إنجازاته الكبيرة والمتميّزة في خدمة الفنّ العربيّ السوريّ الأصيل ولرفعه راية استمرارية التراث الفني العربي الأصيل".سجّل الفنان فخري، رقماً قياسيّاً خلال غنائه على المسرح مدة تتجاوز عشر ساعات متواصلة دون استراحة في مدينة كراكاس الفنزولية العام 1968، ودخل معها موسوعة "غينيس"، وشغل خلال مسيرته الطويلة مناصب عدة بينها نقيب الفنانين السوريين لأكثر من دورة، نائب رئيس اتحاد الفنانين العرب. كما انتخب عضواً في مجلس الشعب السوري العام 1998، وتولى إدارة مهرجان الأغنية السورية.

صباح فخري

صباح فخري مكرماً

فخري في شبابه
مؤذن جامع الروضةعمل فخري في شبابه مؤذناً في جامع الروضة بحلب بعدما نال وظيفة في وزارة الأوقاف، وكان يغني في صغره بالموالد، ونال مع شهرته الطاغية عشرات التكريمات من بينها جمعية فنية تحمل اسمه في مصر تضم محبيه منذ العام 1997، وهي أول جمعية رسمية تقام لفنان غير مصري. تزوّج الفنان فخري مرتين، أنجب من الأولى ثلاثة أولاد هم محمد وعمر وطريف وتوفيت، أما زوجته الثانية فأنجبت له ابناً واحداً هو الفنان أنس فخري.يحفظ الفنان صباح القرآن الكريم، إضافةً إلى عددٍ كبيرٍ من دواوين الشعراء العرب، وإلى جانب موسوعة "غينيس"، جاء اسمه في موسوعة "مايكروسوفت Encarta"، بصفته رمزاً من رموز الغناء العربي الأصيل.
"يا هلال غاب واحتجب"أدى الفنان فخري أول موال له بعنوان "غرد يا بلبل وسلّ الناس بتغريدك" العام 1946، وقد علمته إياه إحدى صديقات والدته، وتتالت جلساته مع جارات والدته وبدأ يتعلم منهن ما كان يُغنى في تلك الجلسات، وذات مرة اصطحبه أخوه الكبير عبدالهادي إلى مجالس الطرب، ليتعرف على عازف العود والملحن السوري محمد رجب، فتعلم منه موشح "يا هلال غاب عني واحتجب"، واختار له اسم محمد صباح، وأشركه في حفلاته بالمدن السورية.ارتبط الفنان فخري، بصداقة عميقة مع الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب، منذ أن استمع لصوته في الشام، وقال له "مثلك بلغ القمة، ولا يوجد ما أعطيك إياه"، وبقي الاثنان صديقان حتى رحيل عبدالوهاب.
ملك النغمة ومدرسة الإبداع نعى كثير من الفنانين عبر حساباتهم الاجتماعية، الفنان السوري الكبير صباح فخري مع نشر صوره وتكريماته، نذكر منهم: غردت الفنانة أمل عرفة: "صباح فخري مثل قلعة حلب تاريخ لا يموت... البقاء لله"، وكتب الملحن فهد الناصر: "رحلَت... نغمة القدود الحلبية وانطفأ نور الموسيقى في الشام... وداعاً"، وغردت الفنانة سلاف فواخرجي: "كنت وستبقى فخراً لنا أيها السوري الكبير، رمزاً نتغنّى ونتكنّى به، مدرسة في الإبداع والأصالة، أسطورة فيها من الحقيقة والخيال كل الجمال، كل الجمال"، وكتب الفنان تيم حسن: رحم الله الكبير صباح فخري، صوت سورية العظيم، ملك النغمة والتطريب وسُلطان التراث العربي الأصيل، أصدق التعازي لأنس وعائلة أبو قوس وأهل حلب الكرام والجمهور العربي أينما وُجد". بينما غرد الفنان سعد رمضان: "تعازينا الحارة للشعب السوري والعربي بوفاة الفنان الكبير الأستاذ صباح فخري… إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، وقال الإعلامي زاهي وهبي: "وداعاً صباح فخري الفنان الحلبي الذهبي، والصوت الراسخ في الذاكرة والوجدان. أحرّ العزاء لأسرته ومحبّيه ولسورية ومبدعيها".وكتب الملحن السوري فضل سليمان: "الأعمدة ما بتموت. الأعمدة بتبقى عم تعلم وتدرس وتوجه خالدة بالتاريخ. الهرم ما بيندفن الهرم واقف شامخ بيحضن نور الشمس ووجه الأرض. صباح فخري المعلم الأستاذ المدرس الهرم العمد التاريخ. شكراً لكل شي قدمته، شكراً لفنك، شكراً لعطائك، شكراً لمرورك في الحياة".وكتب الإعلامي نيشان: "رَحَل صباح فخري، وارتَحَلَ إلى جوار ربّه.. سَتَبقى فخرًا للغناء العربي الشّرقي الأصيل.. صباحُ حلب الشّهباء حزين.. البقاء لله".